قصة الحضارة -> عصر نابليون -> الثورة الفرنسية -> خلفية الثورة -> الحكومة

2- الحكومة


كان لويس السادس عشر رجلاً طيبا، لكنه يصعب - إلا قليلاً - اعتباره ملكا صالحا، فلم يكن الرجل يتوقع أن يصبح حاكما(ملكا)، فقد كان هو الابن البكر لأبيه الذي مات مبكراً 1795، وقد جعله موت جده لويس الخامس عشر 1774 سيدا لفرنسا وهو على حافة العشرين· ولم يكن لديه رغبة في حكم الرجال فقد كان بارعا في استخدام الأدوات والآلات وكان صانعا للأقفال ويجيد إصلاحها بشكل ممتاز، وكان يفضل الصيد على الحكم، فلم يكن يعتبر اليوم الذي لا يصطاد فيه أيّلا إلا يوما ضائعا غير محسوب من عمره ففي الفترة من سنة 1774 إلى سنة 1789 طارد 1.247 أيلا، وقتل 189.251 طريدة، ومع هذا فقد كان لا يحب إصدار أوامر بإعدام البشر، وربما يكون قد فقد عرشه لأنه منع حرسه السويسري من إطلاق النار في 10 أغسطس سنة 1792 وكان بعد أن يعود من رحلات الصيد يأكل بشراهة حتى يملأ معدته عن آخرها، وكانت طاقة معدته لتحمل مزيد من الطعام في ازدياد مستمر، وأصبح نتيجة لذلك بدينا لكنه كان قويا، وقد أصابت ماري أنطوانيت Marie Antoinette في حكمها على زوجها عندما قالت:"الملك ليس جبانا، بل يتحلى بقدر كبير جدا من الشجاعة الكامنة لكن الخجل يربكه وتعوزه الثقة بالنفس ·· وهو يخاف من القيادة ·· لقد عاش كالطفل وفي حالة قلق دائم وهو تحت رعاية لويس الخامس عشر، وظلت هذه حاله حتى بلغ الواحدة والعشرين· لقد عمقت هذه القيود المفروضة عليه جبنه"(12)·
وكان حبه لمليكته جزءاً من الأسباب التي ألحقت الدمار به لقد كانت جميلة فخمة تزين بلاطه بجاذبيتها ومرحها، وغفرت له تباطؤه في عقد قرانه بها· لقد كان الملك ذا عضو تناسلي محكم الإغلاق بمعنى أن قلفته أو غرلته(ü) كانت ملتصقةً التصاقا شديدا بعضوه وكان هذا يسبب له ألماً لا يحتمل إذا ما أنعظ· وقد حاول مرات عدة طوال سبع سنوات، وكان يتحاشى العملية الجراحية البسيطة التي يمكن أن تحل مشكلته إلى أن حثه في سنة 1777 أخو الملكة جوزيف الثاني Joseph النمساوي على إسلام ذكره للسكين وما أن فعل حتى صارت أمور ذكره على ما يرام·
وربما كان الشعور بالذنب الذي يعتريه عنيفا حينا، وهوناً حيناً هو الذي جعله متسامحا جداً مع زوجته؛ متسامحاً إزاء مقامرتها ومغامرتها في لعب الورق (الكوتشينة)، متسامحا إزاء مبالغتها في اقتناء الثياب، متسامحا إزاء رحلاتها المتكررة إلى باريس لحضور الأوبرا، وتحمل صداقتها الأفلاطونية بالكونت فون فيرسن Count Von Fersen وصداقتها للأميرة دى لامبل de Lamballe وممارستها السِّحاق معها في ظل هذه الصداقة· لقد كان الملك بتكريسه نفسه لزوجته بشكل واضح يسلي حاشيته ويسعدها لكن هذا كان مدعاة لخجل أجداده· وكان الملك يقدم لها الجواهر الغالية، لكنها - وكذلك فرنسا- كانت أكثر حاجة إلى طفل· وعندما أتى الأطفال أثبتت أنها أم صالحة وانشغلت بمتاعبهم وقللت من غلوائها، واعتدلت في أمورها كلها خلا كبريائها، وتدخلها المتكرر في أمور الدولة (شئون الحكم)، وفي هذه كان لها بعض العذر لأن لويس كان قلما يحسم الأمور أو يحدد المسار أو يختار بين البدائل بل كان غالباً ينتظر الملكة لتنظم له تفكيره، وكان بعض أفراد الحاشية يتمنون لو كان له قدرتها على تقدير الأمور بسرعة واستعدادها للقيادة·
لقد فعل الملك كل ما استطاع لمواجهة المصائب والأزمات التي سببها له سوء الأحوال الجوية والمجاعة والشغب بسبب عدم توفر الخبز، والثورات ضد الضرائب، ومطالب النبلاء والبرلمان، ونفقات البلاط والإدارة وزيادة العجز في الخزانة·وظل طوال عامين (1774-1776) يسمح لتورجو Turgot بتطبيق نظرية الفيزيوقراط (الطبيعيين) والتي مؤداها أن إطلاق الحرية للمشروعات الخاصة والمنافسة وعدم إعاقة قوانين السوق المتحكمة - قانون العرض والطلب - سينعش الاقتصاد الفرنسي ويضيف عوائد جديدة للدولة، وأنه من الضروري تطبيق هذه النظرية على أجور العمال وأسعار البضائع· لكن أهل باريس قد اعتادوا التفكير في أن الحكومة هي الملاذ الوحيد الذي يحميهم من جشع المضاربين في السوق، لذا فقد عارضوا إجراءات تورجو Turgot وقاموا بأعمال شغب، واعترتهم البهجة عند سقوطه (أي سقوط حكومة تورجو)·
وبعد أن لبث الملك عدة شهور مترددا مشوش الفكر استدعى جاك نيكر Jacques Necker وهو خبير مال سويسري يدين بالمذهب البروتستانتي ومقيم في باريس ليكون مشرفا على أمور الخزانة (1777-1781)·
وفي ظل هذا الغريب غير الكاثوليكي(ü) نفذ الملك لويس برنامجا شجاعا لإصلاحات صغرى؛ فقد سمح بتشكل مجالس (جمعيات) منتخبة على المستوى المحلي ومستوى المقاطعات لتعبر عن أهالي هذه المناطق لتكون كجســر يسـد الفجـوة بين الشـعب والحكومة· وأعلن الملك رفضه لنظام السخرة Corveé، وكان إعلانه هذا صدمة لطبقة النبلاء، بل لقد أعلن في بيان أمام الجمهور (1780)" أن الضرائب المفروضة على القطاعات الأشد فقرا من رعايانا قد زادت زيادة كبيرة أكثر بكثير مما زادت فيه الضرائب على القطاعات الأخرى جميعا" وعبر عن "أمله في أن يفكر الأغنياء في تحمل الأعباء التي كان يجب أن يشاركوا الآخرين في حملها منذ مدة طويلة"(22) وقام الملك بتحريــر الأقنـان (عبيــد الأرض) في ممتلكاته ولكنه قاوم ما حثه نيكر عليه بتطبيق ذلك على الأقنان في أراضي النبلاء والإكليروس· وأسس الملك مراكز للرهن(مراهن) لتقرض الأموال للفقراء (بعد إيداع رهن) بنسبة ربح 3%، ومنع استخدام أساليب التعذيب مع الشهود ومرتكبي الجرائم· ووعد بالغاء الزنزانات في فينسين Vincennes وأن يدمر الباستيل Bastille ضمن برنامج لإصلاح السجون·
ورغم أن الملك كان تقيا متمسكا بكاثوليكيته(ü) إلا أنه سمح بقدر كبير من الحرية الدينية للبروتستانت واليهود · ورفض أن ينزل العقاب بأصحاب الأفكار الحرة، بل لقد سمح لمؤلفي الكتيبات (مصدري النشرات) الغلاظ الذي لا يرحمون أن يصفوه بأنه ديوث، ويصفوا زوجته بأنها بغي ويصفوا أولاده بأنهم أولاد زنا· ومنع حكومته من التجسس على مراسلات المواطنين الخاصة·
وأرسل لويس مساعدات مالية ومادية بلغ إجمالي قيمتها 240.000 دولار للمستعمرات الأمريكية دعماً لها في نضالها من أجل الاستقلال، وقد أيده في هذا بحماس بومارشيه Boaumarchais والفلاسفة(üü) Philosophes، بينما كان نيكر معارضا (بحجة أن ذلك سيعجل بإفلاس فرنسا إفلاسا كاملا)· لقد كان الأسطول الفرنسي وكتائب لافايت Lafayette وروشامبو Rochambeau هي التي ساعدت واشنطن Washington على حصار كورنويلز Cornwallis في يوركتون York town وإرغامه على التسليم ومن ثم كانت القوات الفرنسية سببا في إنهاء الحرب· لكن الأفكار الديمقراطية عبرت المحيط الأطلنطي إلى فرنسا، وبينما كانت خزانتها تئن من وطأة الديون الجديدة، جرى طرد نيكر Necker من الحكومة عام 1781 وراح حاملو السندات من الطبقة البورجوازية يصرخون متذمرين مطالبين بضبط مالية الحكومة·
وفي هذه الأثناء راح برلمان باريس يضغط على دعواه بحقه في الاعتراض على المراسيم الملكية· وغالبا ما كان لويس- فيليب - جوزيف Louis - Philippe - Joseph دوق أورليان Orleans - ابن عمه فهو منحدر مباشرة من الأخ الأصغر للويس الرابع عشر - يخطط علنا للاستيلاء على العرش· وراح لويس - فيليب - جوزيف يوزع عن طريق كوديرلو دى لاكلو Choderlos de Laclos وغيره من الوكلاء عنه النقود والوعود على السياسيين وكتاب النشرات (الكتيبات) والخطباء والعاهرات (المومسات)·
لقد أباح لأتباعه التسهيلات والبلاط وحدائق قصره الملكي والمقاهي والحانات ومخازن الكتب ونوادي القمار لتكون في خدمة الجماهير التي تجمعت هناك نهارا وليلا ووصلت الأخبار من فرساي Versailles بسرعة· حملها بعض أفراد الحاشية· فظهرت النشرات (الكتيبات) هناك في كل ساعة ودوى الخطباء بخطبهم من فوق المنصات والمناضد والكراسي، وحبكت المؤامرات لعزل الملك·
وانزعج الملك من فكرة عزله فاستدعى نيكر Necker وولاه وزارة المالية (1788)، وأصدر بناء على حث نيكر له دعوة للفرنسيين بأن ينتخبوا ممثليهم من النبلاء ورجال الدين والعوام ويرسلوهم إلى فرساي ليشكلوا مجلس طبقات الأمة (لم ينعقد مجلس طبقات الأمة منذ سنة 1614) ليقدم له المشورة والدعم لمواجهة مشاكل المملكة· وكانت دعوة الملك لعقد مجلس طبقات الأمة هي الملاذ الأخير والخطير الذي اضطر للجوء إليه والذي قد يؤدي إلى إنقاذ عرشه أو الإطاحة به· وقد أصدر الملك دعوته هذه في 8 أغسطس سنة 8871·
وثمة بعض الملامح الجديرة بالملاحظة حول هذه الدعوة التاريخية التي وجهتها الحكومة لأنها طوال نحو قرنين من الزمان لم تكن تفكر في طبقة العوام إلا باعتبارهم مجرد دافعي ضرائب وموردي طعام ، و- دوريا- وقود حرب· وقد أعلن الملك في البداية بناء على حث نيكر له أن طبقة العوام لا بد أن يكون لها ممثلون (نواب) بقدر عدد نواب الطبقتين الأخريين (طبقة النبلاء وطبقة الأكليروس)، في هذا الاجتماع القادم· وكانت طبقة النبلاء معترضة على هذا الإعلان الملكي· أما الأمر الثاني: أن تكون الانتخابات في فرنسا أقرب ما تكون إلى نظم الانتخابات العالمية بالنسبة للبالغين؛ فأي رجل يبلغ السابعة والعشرين من عمره أو أكثر، يكون قد دفع في العام الماضي أي ضرائب للحكومة مهما قلت قيمتها، له حق التصويت في المجالس المحلية Local assemblies التي ستنتخب ممثليها لتمثيل المنطقة في باريس· والأمر الثالث أن الملك أضاف إلى دعوته طلبا من المجالس المنتخبة كلها أن تقدم له تقارير(ü) Cahiers لتحديد المشكلات وطلبات كل طبقة في كل مقاطعة (أو إقليم (district مع اقتراحات وتوصيات لعلاج هذه المشكلات ورسم سبل للإصلاح· ولم يحدث أبداً قبل ذلك - فيما تعي ذاكرة الفرنسيين - أن طلب أي من ملوكهم مشورة شعبه·
ومن بين 615 تقريراً حملها النواب للملك، بقي منها 545 · وكلها تقريبا تعبر عن ولائها للملك بل وتعاطفها معه باعتباره رجلاً حسن النوايا بشكل ظاهر، لكن هذه التقارير كلها أو العرائض تقريبا قد اقترحت عليه أن يشرك معه في مشاكله وسلطاته مجلسا منتخبا ليكون معه ملكية دستورية· ولم يرد في تقرير واحد من هذه التقارير أي ذكر لحق الملوك الإلهي في الحكم· وطالبت التقارير جميعا بنظام قضائي قائم على المحاكمة أمام هيئة محلفين، وطالبت بخصوصية الرسائل(عدم جواز اطلاع السلطات عليها) وتخفيف الضرائب وإصلاح القانون· أما التقارير التي كتبها النبلاء فقد اشترطت أن يجلس أفراد كل طبقة بمعزل عن الطبقتين الأخريين في مجلس طبقات الأمة القادم، وأن تصوت كل طبقة على حدة، وألا يصبح أي إجراء قانونيا إلا بعد موافقة الطبقات الثلاث· أما تقارير(عرائض) الإكليروس فدعت إلى نبذ التسامح الديني وأن تشرف الكنيسة - وبمفردها - على التعليم· وعكست تقارير الطبقة الثالثة (طبقة العوام) - مع اختلاف في درجة التركيز على عنصر أو آخر - مطالب الفلاحين في تخفيض الضرائب، وإلغاء القنانـــة (عبودية الأرض) والعوائد الإقطاعيـــة وتعميم التعليم الحــــــر وحماية المزارع من الدمار الذي تلحقه أنعام السادة وممارستهم الصيد فيها، وطالب أفراد الطبقة الوسطى بإتاحة الفرص للموهوبين بصرف النظر عن الأصل وبإلغاء رسوم الانتقال، وبامتداد نظام الضرائب ليشمل النبلاء والإكليروس، واقترح بعضهم أنه يجب على الملك أن ينهي العجز المالي بمصادرة الأملاك الكنسية وبيعها· لقد ظهرت الخطوط العريضة للمراحل الأولى للثورة الفرنسية - بالفعل- في هذه التقارير (العرائض Cahiers )·
وقد ظهر في هذه الدعوة المتواضعة التي وجهها الملك لمواطنيه بعد ملحوظ عن التجرد والحياد، فبينما كان من حق كل مواطن خارج باريس أن يدلى بصوته ما دام قد دفع ضرائب، فلم يكن من حق الباريسي أن يدلي بصوته إلا اذا كان قد دفع ضريبة رأس قيمتها ست ليفرات(ü) Livres أو يزيد· ربما تردد الملك ومستشاروه في أن يتركوا للخمسمائة الف عامـل "الطبقة التي لا يرتدى أفرادها كلوتات قصيرة وإنما سراويلات (بناطيل) تصل إلى كواحل الأقدام(üü) Sans Culottes (انتخاب رجال يمثلون في مجلس طبقات الأمة أفضل مصدر للمعلومات للعاصمة (يكونون كاستخبارات داخل المجلس)· فمشكلة الديمقراطية المتمثلة في أن الكيف إنما هو ضد الكم والمتمثلة في الحصول على الكفاءات العقول الذكية (brains) بالتَّشَمُّم المحسوب (باستخدام الجواسيس) قد ظهرت هنا في الفترة التي سبقت الثورة مباشرة، قبل إعلان الديمقراطية في سنة 3971م· وعلى هذا فقد ترك أولئك الذين لا يرتدون كلوتات(üüü) (العمال) خارج الحركة الشرعية للأحداث، وأدى هذا إلى أن تشعر هذه الطبقة أنه بالعنف وحده - ذلك العنف الذي يستطيعونه بسبب عددهم الكبير - يمكنهم أن يكونوا قاسماً مشتركا في كل ما ترغب الإرادة العامة للشعب التعبير عنه· كانوا هم الذين استولوا على الباستيل في سنة 1789، وهم الذين أطاحوا بالملك في سنة 1792، وهم الذين شكلوا حكومة فرنسا سنة 1793 ·


صفحة رقم : 14540