قصة الحضارة -> عصر نابليون -> الثورة الفرنسية -> الجمعية التشريعية -> دانتون
3- دانتـــون
خلال هذه الأسابيع المتشنجة امتنع غالب أعضاء الجمعية التشريعية (ممثلو الحقوق (Rights عن الحضور إلى مقر الجمعية فبعد العاشر من أغسطس لم يعد يحضر إلا 582 عضوا من مجموع الأعضاء البالغ عددهم 547· وصوت هذا المجلس التشريعي المبتور (الناقص) على أن يجعل الأمور في يد مجلس تنفيذي به ممثلون للدوائر (المحافظات) المختلفة ليحل محل الملك ومستشاريه، واختارت الأغلبية جورج دانتون Georges Danton ليرأس هذا المجلس وزيراً للعدل، وأن يكون رولان Roland وزيرا للداخلية وجوزيف سيرفان Joseph Servan وزيرا للحرب· وكان اختيار دانتون في جانب منه محاولة لتهدئة أهل باريس إذ كان له شعبية بينهم بالإضافة إلى أنه كان في ذلك الوقت أقوى شخصيات الحركة الثورية وأكثرهم قدرة·
وكان في الثالثة والثلاثين من عمره وسيموت في سن الخامسة والثلاثين، فالثورة امتياز للشباب· ولد دانتون في أرسي - سير - أوب Arcis - Sur - Aube في شامباني Champagne وحذا حذو أبيه في الاشتغال بالقانون، وازدهرت أحواله محامياً في باريس لكنه فضل أن يعيش في المبنى نفسه مع صديقه كاميل ديمولين Camille Desmoulins في حي الطبقة العاملة المنتمية لتنظيم الكوردليير (ü) (نادي الرهبان الفرنسسكان أو نادى جمعية أصدقاء الإنسان والمواطن) وسرعان ما أصبح هو وصديقه أعضاء بارزين في هذا النادي الآنف ذكره (الكوردليير)· وكانت شفتاه وأنفه مشوهة بسبب حادثة وقعت له في مرحلة الطفولة، وكان بجلده آثار الجدري لكن قليلين كانوا يدركون ذلك نظراً لطوله الفارع ورأسه الكبير ولشعورهم بقوة أفكارة الحاسمة الحادة المتبصرة خاصة عند سماعهم خطبه العاصفة وهو يهدر كالرعد في الاجتماعات الثورية لنادي اليعاقبة أو الحشود البرولتيارية، وغالبا ما كان يتعرض في خطبه تلك لما يمس المقدسات·
ولم تكن شخصيته قاسية وحشية أو مستبدة كوجهه أو صوته· وكان قادراً على التجرد من مشاعره ليكون فظا غليظ القلب في أحكامه كما تدل على ذلك مذابح سبتمبر ومع هذا فقد كانت به بعض الرقة الكامنة ولم يكن حقودا كامن الحقد، فقد كان سريع العطاء سريع الصفح، وكان معاونوه يدهشون عندما يجدونه يتراجع عن أوامره الظالمة أو يحمي ضحايا تعليماته القاسية، وسرعان ما فقد حياته لأنه جسر على القول بأن الإرهاب قد أمعن وتطرف كثيرا وأنه قد حان وقت الرحمة· وكان على عكس روبيسبير الرزين، فقد كان يستطيب الفكاهات Rabelaisian humour ويحب المباهج الدنيوية، كا كان مقامراً عاشقا للنسوة الحسان وقد كون ثروة وأقرض واشترى منزلا جميلا في أرسي Arcis كما اشترى جزءاً كبيرا من ممتلكات الكنيسة، وقد تعجب أناس كثيرون كيف حصل مبالغ تفوق حاجاته الضرورية وشكوا في أنه تقاضى مبالغ مالية كرشوة لحماية الملك· وكانت البراهين التي تؤكد ذلك هي السائدة ولم تكن في غير صالحه(32)· ومع هذا فقد كان ثوريا من الطراز الأول وبدا كأنه لم يخن أبداً أيا من مصالح الثورة الحيوية، لقد أخذ أموال الملك ومع هذا فقد عمل لصالح البرولتياريا، ومع هذا فقد كان يعلم أن دكتاتورية البرولتياريا أمر ينطوي على التناقض ولا يمكن أن يكون إلا للحظة في التاريخ السياسي (غير مستمر)·
وقد تلقى تعليما كثيرا جعلته يوتوبيا (يوطوبيا - أي من أنصار المدن أو الحكومات المثالية)، وكانت مكتبته (التي كان يأمل أن يعود إليها بسرعة بعد خلاصه من مهامه السياسية) تضم 175 مجلدا باللغة الفرنسية و 27 بالإنجليزية و 25 بالإيطالية إذ كان يستطيع قراءة الإنجليزية والإيطالية بلا عناء، وكان لديه من مؤلفات فولتير 19 مجلدا و 61 لروسو، كما كان لديه موسوعة ديدرو كاملة(42) Diderot`s Encyclopedie وكان ملحدا(ü) لكنه كان متعاطفا على نحو ما مع فكرة أن الدين إنما هو للفقراء· فلنقرأه وهو يقول في سنة 0971 ما قاله موسى Musset (52) بعد ذلك بجيل:
"من ناحيتي، أعترف أنني لا أعرف إلا إلهاً واحدا - إلهاً لكل الكون والعدالة··· لكن الرجل في الحقول يضيف إلى هذا أوهاما··· لأنه في شبابه ومرحلة رجولته ومرحلة كهولته مدين للكاهن (القسيس) بلحظات السعادة القليلة التي تمر به·· لندعه لهذا الوهم·
علمه أيها القس إن شئت··· لكن لا تجعل الفقير يخشى فقدان الشيء الوحيد الذي يربطه بالحياة"(62)·
وهو - دانتون - كزعيم ضحى بكل شىء حتى النهاية لحماية الثورة من الهجوم الأجنبي ومن الفوضى الداخلية· ولهذه الأغراض كان مستعداً للتعاون مع أي شخص - مع روبيسبير، ومارا Marat والملك، والجيرونديين، لكن روبيسبير كان يحقد عليه، وكان مارا Mara يتهمه، وكان الملك لا يثق به وكان الجيرونديون حذرين منه بسبب وجهه وصوته وكانوا يرتجفون من تعبيراته المنطوية على الازدراء· ومع هذا فلم يكن أي من هؤلاء بقادر على أن يتجاهل وجوده فقد نظم أمور الحرب وتفاوض من أجل السلم وكان يزأر كالأسد وهو يتحدث عن الرحمة وحارب من أجل الثورة وساعد بعض الملكيين على الهرب خارج فرنسا(72)·
وكوزير للعدل عمل على توحيد كل الفصائل الثورية كلها لرد الغزاة، وتحمل مسئولية إثارة الجماهير في 01 أغسطس فالحرب في حاجة لدعم هذه الأرواح المثمرة فمنهم يمكن تجنيد جنود متوقدين حماسة، لكنه لم يشجع المحاولات غير الناضجة لدعم الثورات على الملوك الأجانب (الملوك خارج فرنسا) فهذا قد يؤدي إلى اتحاد الملكيات في عدائها ضد فرنسا· وقاوم اقتراح الجيرونديين بانسحاب الحكومة والجمعية إلى ما وراء اللوار The Loire فمثل هذا التراجع لا بد أن يحطم معنويات الشعب· لقد انقضى وقت المناقشات وحان وقت العمل لبناء قوات مسلحة جديدة وتحصين أفرادها بالروح العالية والثقة، وفي 2 سبتمبر سنة 2971 ألقى خطابا مشحونا بالعواطف والأنفعالات وردت فيه فقرة حركت المشاعر في فرنسا ودوت في هذا القرن العامر بالاضطرابات· ودخلت القوات البروسية النمساوية فرنسا وحققت نصرا تلو نصر، واضطربت باريس وترددت بين الاستجابة العازمة المصممة والخوف المربك· وتحدث دانتون للمجلس التنفيذي وذهب إلى الجمعية لبث الحماس في أعضائها وفي الأمة كلها كي يتشجعوا ويتحركوا :
"إنه لأمر مرض لوزير في دولة حرة أن يعلن لهم أن بلادهم قد نجت فالكل مستثار والكل متحمس، والكل تواق للنضال··· فجانب من شعبنا سيحرس حدودنا وجانب آخر سيقيم الحصون ويسلحها، وجانب سيدافع عن داخل مدننا بالرماح··· إنني أطالبكم بإعدام أي شخص يرفض تقديم ما يقدر عليه سواء خدماته الشخصية أم تزويد القوات المسلحة بما يحتاجه····
إن ناقوس الإنذار الذي سنسمعه ليس إشارة إلى الخطر وإنما هو يأمر بالهجوم على أعداء فرنسا· لا بد أن نكون قادرين على التصدي للهجوم··· لا بد أن نجسر على ذلك، لا بد دائما أن نجسر على ذلك - عندها يكون قد تم إنقاذ فرنسا"·
لقد كان خطابا قويا وتاريخيا لكن في اليوم نفسه بدأت أكثر الأحداث مأسوية في فرنسا بشكل غير متوقع·