قصة الحضارة -> عصر نابليون -> الثورة الفرنسية -> المؤتمر الوطني -> اللجنة الكبرى
4- اللجنة الكبرى
1793
احتفظ المؤتمر الوطني لنفسه بحق المراجعة الشهرية لعضوية لجنة الأمن العام، وفي 10 يوليو كانت سياسة السلام التي تبنتها اللجنة وكذلك سياستها الخارجية والداخلية قد فشلت، فأزاح المؤتمر دانتون، وفي 25 يوليو انتخبه المؤتمر رئيساً له لدورة عادية لمدة أسبوعين(وربما كان هذا كي يظهر المؤتمر استمرار تقديره له)، وماتت زوجة دانتون في فبراير وتركت له طفلين، وفي 17 يونية تزوج من فتاة في السادسة عشرة، وفي 10 يوليو استقر في بيته كزوج مرة أخرى·
وفي 27 يوليو تم تعيين روبيسبير في لجنة الأمن العام ولم يهتم دانتون به وقال: "هذا الرجل ليس لديه من الدهاء ما يكفي لسلق بيضة"(24) ومع هذا ففي أول أغسطس حث المؤتمر الوطني على تخويل لجنة الأمن العام صلاحيات وسلطات كاملة· وربما اعتذاراً منه عن هذه المشورة، ذكر لديمولان Desmoulins وهما يراقبان غروب الشمس على نهر السين، وكانت أشعة الشمس الغاربة قد جعلت مياهه حمراء قانية: "إن النهر يجرى دما"· وفي سبتمبر اقترح المؤتمر الوطني عليه العودة إلى لجنة الأمن العام لكنه رفض(43) وغادر باريس في 12 أكتوبر مرهقا مريضا ونشد الراحة في البيت الذي كان قد اشتراه في موطنه الأصلي أرسي - سير أوب Arcis - Sur - Aube في وادي ميرن Marne، وعندما عاد إلى باريس في 21 نوفمبر كان السين يجرى دما بالفعل·
وخلال الصيف أخذت "اللجنة الكبرى" كما أصبحت تسمى شكلها التاريخي· إنها الآن تتكون من اثنى عشر رجلاً كلهم من الطبقة الوسطى وكلهم نالوا قسطا طيبا من التعليم، وكلهم ذوو دخول جيدة وكلهم يعرفون الفلاسفة Philosophes وروسو Rousseau، لقد كان ثمانية منهم محامين واثنان مهندسين، ولم يكن منهم من اشتغل بيديه سوى كولوت دربوا Collot d`Herbois إن دكتاتورية البرولتياريا إذن ليست على الإطلاق برولتيارية، ولنراجع السجلات:
1- برتران بارير Bertrand Barère ، في الثامنة والثلاثين، أوكل إليه بالإضافة إلى واجباته المختلفة مهمة الحضور أمام الؤتمر الوطني والدفاع عن القرارات التي تصل إليها اللجنة (لجنة الأمن العام) والعمل على صدور مراسيم بشأنها· كان ودودا مقنعا، فقد كان يصوغ الإحصاءات شعرا ويزف أحكام الموت ببلاغة ولم يكن له أعداء كثيرون على قيد الحياة وكان يتلون بلون السياسة القائمة وعاش حتى سن السادسة والثمانين، وهي فترة طويلة ليتعلم منها أن الحكومات تموت وكذلك الأفكار·
2- جان - نيكولاس - بيلو - فارين Jean -Nicolas Billaud Varenne ، في السابعة والثلاثين قدم البراهين على أن الكنسية الكاثوليكية هي أخطر أعداء الثورة على الإطلاق ولا بد من تدميرها· وقد احتفظ بصلاته مع أحياء باريس والكومون في تناغم تام، واتبع سياسات تتسم بالعنـــاد والإلحاح مما جعــل رفاقــه في اللجنــة (لجنــة الأمــن العــام) يخافــونه، وحمل مسئولية مراسلة المحافظات ورأس الجهاز الإداري الجديد، وكان في وقت من الأوقات "أقوى أعضاء اللجنة"(44)·
3- لازار كارنو Lazare Carnot ، في الأربعين من عمره كان معروفا كعالم رياضيات ومهندس عسكري، أخذ على عاتقه الجيوش الفرنسية ورسم خرائط المعارك، وعلم الجنرالات ودربهم وكسب احتراما عاما لمقدرته واستقامته وهو الوحيد من بين أعضاء هذه اللجنة الذي لا يزال اسمه يحظى بالتكريم والتشريف في فرنسا كلها حتى اليوم·
4- جان - مارى كولو دربوا Jean- Marie Collot d`Herbois ، في الثالثة والأربعين، كان ممثلاً سابقا، وقد عانى من موقف الثورة التي كانت تعتبر المهن المسرحية لا تعطيه الأهلية الشرعية للترقي في مدارجها· ولم ينس أبدا أن البورجوازيين كانوا يغلقون أبوابهم في وجهه وأن الكنيسة قد أصدرت قرار الحرمان ضده بسبب مهنته، وكان أقسى أعضاء اللجنة الاثني عشر في التعامل مع أرستقراطية التجار aristocracy of merchants واقترح ذات مرة - كإجراء اقتصادي - نسف سجون باريس - المزدحمة بالمشكوك فيهم والمحتكرين والمتربحين - بالألغام (بمن فيها)(54)·
5- جورج كوتو George Couthon، في الثامنة والثلاثين، أقعده التهاب السحايا فكان لا بد من حمله على مقعد أينما ذهب، وكان قد أفرط في الممارسات الجنسية في شبابه فأدى هذا إلى إصابته بالعلل لكن زوجته كانت تحبه، وكان طيب القلب حديدي الإرادة عرف عنه إدارته الإنسانية للمحافظات المحورية في أثناء عهد الإرهاب·
6- مارى - جان هيرول دى سيشل Jean Hérault de Séchelles ، في الرابعة والثلاثين وكـان يبـدو فــي غيـر موضعه ودرجته بين هؤلاء الاثنـي عشر (لجنة الاثني عشر أي لجنة الأمـن العـام التي نحـن بصــددها الآن) فقـد كان أحــد نبلاء >الأرواب< (نبيل بحكم المنصب الذي شغله) ومحامياً ثرياً، كان مرموقا لأناقته وسلوكه المهذب وعقله ذي النزعة الفولتيرية (كان متأثرا بفكر فولتير)· وعندما شعر بالمد الثوري يزداد انضم مع الذين هاجموا الباستيل وكتب معظم دستور سنة 1793 وعمل منفذاً لسياسات اللجنة في الألزاس فنفذها بصرامة، وعاش حياة مريحة مع خليلة نبيلة حتى قصت المقصلة رقبته في 5 أبريل سنة 1794 ·
7- روبرت لند Robert Lindet ، في السابعة والأربعين تولى أمر إنتاج الطعام وتوزيعه في ظل سياسة التوجيه الاقتصادي المتزايدة، وحاز إعجابا لجهوده في إطعام الجيوش الفرنسية وتقديم الكساء لها·
8- كلود - أنطوان برييز - دوفيرنوا Claude Antoine Prieur - Duvernois ، كان يسمى بريير ساحل الذهب the Cote d`or ، عمره ثلاثون سنة بذل جهودا مميزة - مثل روبرت لند - في تزويد الجيوش بالأغذية وغيرها من المواد اللازمة·
9- بيير - لويس Pierre - Louis المعروف ببيير المارن The Marne (الكلمة في المعاجم الفرنسية العربية تعني المَرِن أو السجيل أي خليط من جملة مواد)، كان في السابعة والعشرين من عمره، بذل كل جهده في محاولة كسب الكاثوليك والملكيين في محافظة بريتانيBrittany إلى جانب الثورة·
10- أندريه جانبون سان أندريه - Andre` Jeanbon Saint - Andre` . في الرابعة والأربعين· من ذرية بروتستانتية ولكنه تلقى تعليما يسوعيا (جزويتيا)· أصبح قائدا (قبطانا) لسفينة تجارية ثم كاهنا بروتستانتيا وتولى مسئولية الأسطول الفرنسي في بريست Brest وخاض به معركة مع الأسطول البريطاني·
11-لويس - أنطوان سان - جوست - Louis - Antoine Saint - Just، في السادسة والعشرين· وكان أكثر أعضاء اللجنة The Twelve شبابا وغرابة، فهو الابن الإرهابي لعصر الإرهاب، إذ كان شديد الإيمان بالثورة إيمانا ثوريا انفعاليا غلابا لا يقهر· ربته في بيكاردي Picardy أم مطلقة فكان مدللا مطلقاً العنان لرغباته فرفض أي حكم أو ضوابط وهرب إلى باريس وأخذ معه فضة أمه وأنفقها على العاهرات(46) وقبض عليه وأودع السجن ودرس القانون وكتب قصيدة جنسية من عشرين قسما(مكونة من عشرين مقطوعة) وكان مولعاً باغتصاب النساء خاصة الراهبات منهن ، وكان يمجد اللهو واللذه باعتبارهما حقا مقدسا(47)· وقد وجد في الثورة ، في البداية تبريرا شرعيا ظاهرا لمذهبه في المتعة واللذة لكن مثلها العليا وغاياتها جعلته يسمو بفرديته ليتمسك بالفضائل الرومانية Roman Virtus بطريقة جعلته على استعداد للتضحية بكل شىء لجعل هذه المثل العليا على أرض الواقع(48)· لقد تحول من الأبيقورية (مذهب اللذة) إلى الرواقية (مذهب مجاراة الضرورة) لكنه ظل رومانسيا حتى النهاية· لقد كتب: "عندما يأتي اليوم الذي لا أستطيع فيه أن أهدي الشعب الفرنسي إلى طرق مناسبة وقوية وعقلية لا تنثني أمام الطغيان والظلم ·· ساعة تبين عجزي عن هذا سأطعن نفسي"(94) وفي "المؤسسات الجمهورية Republican Institutions" (1791) قدم البراهين على أن تركز الثروة إنما هو سخرية من مَبْدَأَى المساواة والحرية من الناحية السياسية والقانونية، فلا بد من تحديد الثروات وتوزيعها، ولا بد أن تقوم الحكومة على ملاك فلاحين وحرفيين مستقلين، ولا بد أن تمول الحكومة التعليم للجميع وتقدم إعانات للفقراء· ولا بد أن تكون القوانين قليلة ومختصرة ومفهومة "فالقوانين الطويلة مثل كوارث ومصائب عامة"(50)، ولا بد أن تتولى الدولة تربية الأطفال كلهم بعد سن الخامسة ببساطة إسبرطية (لتعليمهم البساطة والجلد) ولتطعمهم الخضراوات ولتدربهم على القتال· والديمقراطية أمر طيب لكن الدكتاتورية أمر لازم وقت الحرب(51)· وعندما تم انتخابه للجنة الأمن العام في 10 مايو سنة 1793 نذر نفسه للعمل الجاد المضني ورد على الشائعات التي ترددت باتخاذه عشيقة مع الزعم "بأنه مشغول جداً ولا وقت لديه لمثل هذه الرفاهية· وأصبح الشاب العنيد سريع الهياج متجهما صارما منضبطا ومنظما قديرا وجنرالا لا يهاب ومحققا للنصر· وعندما عاد منتصرا إلى باريس تم اختياره رئيساً للمؤتمر الوطني (19 فبراير 1794) ومع أنه كان فخورا معتزا بنفسه واثقا بها متسوّداً على الآخرين إلا أنه قبل بتواضع قيادة روبيسبير ودافع عنه في هزيمته وصحبه إلى الموت وهو - أي سان جوست - في سن السادسة والعشرين وأحد عشر شهرا·
12- روبيسبير لم يحل محل دانتون تماما كعقل حاكم مدبر وكشخص فارض إرادته على لجنة الأمن العام The Twelve فقد كان كل من كارنو Carnot وبيلو Billaud وكولو Collo لديهم من الصرامة والشدة مما يعسر معه حكمهم، فلم يصبح روبيسبير أبدا دكتاتوراً· لقد كان يعمل من خلال دراسة متأنية صبورة واستراتيجية مراوغة لا من خلال أوامر مباشرة (زعامة واضحة) وحافظ على شعبيته بين أفراد الطبقة الثالثة (السانس كولوت) فقد عاش عيشة بسيطة وراح يمدح الجماهير ويمجدها ويدافع عن مصالحها، وفي 4 أبريل 1793 قدم للمؤتمر الوطني "الإعلان المقترح لحقوق الإنسان والمواطن":
"المجتمع ملزم بتقديم ما يقيم أود كل فرد فيه، سواء بإتاحة فرص العمل لهم أم بضمان وسائل العيش لغير القادرين على العمل···· فمن كان عنده فضل مال فليعد به على من لا مال له··· إنه لدين على القادرين أن يساعدوا من تنقصهم الضروريات· إن التخلص النهائي من الاستبداد يكون بمقاومة الظلم الذي يلبس لبوساً قانونيا (يأخذ شكلاً شرعيا)··· والهيئات والمؤسسات التي لا تؤمن بأن الناس كلهم صالحون طيبون وأن الحكام والقضاة مرتشون فاسدون، هي هيئات أو مؤسسات كلها باطلة···فالناس في كل البلاد سواسية (إخوة)"(25)·
بالتأكيد لم يكن أعضاء لجنة الأمن العام الاثنا عشر كلهم مجرد قتلة أوغاد كما توحي بذلك النظرة السطحية· حقيقة أنهم اتبعوا باستعداد تام تراث الإرهاب وحذوا حذو ذلك التراث الذي كان قد وصل إليهم من الحروب الدينية ومذبحة 1572 فترة القديس بارثولومو Bartholomew وكان معظمهم قد تعلم أن يعدم أعداءه من غير أن يتحرك ضميره بل وفي بعض الأحيان بلا وازع من فضيلة لكنهم كانوا يتذرعون بضرورات الحرب وأعرافها· وكانوا هم أنفسهم عرضة لهذا الحظ العاثر، فقد كان كل واحد منهم مهددا بالعزل وجز رقبته بالمقصلة، وبالفعل فقد حدث لعدد منهم هذا· وكانوا في كل لحظة عرضه لسخط جماهير باريس أو الحرس الأهلي (الوطني) أو جنرال طموح، وكانت أي هزيمة كبرى على الحدود أو في المحافظات (الدوائر) المتمردة كفيلة بالإطاحة بهم· وفي الوقت نفسه فإنهم كانوا يعملون ليل نهار لإنجاز المهام الموكلة إليهم، فكان الواحد منهم يواظب من الثامنة صباحا حتى الظهر في مكتبه أو لجنته الفرعية (المنبثقة من اللجنة الأم- لجنة الأمن العام) ومن الساعة الواحدة حتى الرابعة يحضر جلسات المؤتمر الوطني، ومن الساعة الثامنة حتى وقت متأخر يدخل في مناقشات ومشاورات حول المنضدة الخضراء في غرفة اجتماعاتهم·
وعندما تولوا أمر فرنسا كانت البلاد تمزقها الحروب الأهلية بسبب الرأسمالية الطارئة في ليون Lyons وبسبب اضطرابات الجيرونديين في الجنوب وحروب الكاثوليك والملكيين في الغرب، وكانت الجيوش الأجنبية تهددها من الشمال الشرقي والشرق والجنوب الغربي، وكانت تعاني الهزيمة برا وبحرا وكانت موانئها كلها محاصرة، وعندما سقطت هذه اللجنة العظمى(الكبرى) كانت فرنسا قد أصبحت وحدة سياسية تحت مطارق الدكتاتورية والإرهاب وظهر جيل جديد من الجنرالات الشبان مدربين قادوا المعارك أحيانا فقد أحرز كارنو Carnot وسان جوست Saint - Just انتصارات حاسمة أجبرت الأعداء على التراجع، ووقفت فرنسا وحدها ضد أوروبا كلها تقريبا وظهرت منتصرة على كل شيء لكنها لم تنتصر على نفسها·