قصة الحضارة -> عصر نابليون -> الثورة الفرنسية -> حكومة الإدارة -> انقلاب فروكتيدور سبتمبر
7- انقلاب 18 فروكتيدور
4 سبتمبر 1797
لم تكن باريس التي وصلها هي باريس نفسها التي ألفها في أيام عامي 2971 و 3971 حيث حكم الجماهير والحشود· بل إنه حتى منذ سقوط روبيسبير سنة 4971 كانت العاصمة (باريس) تتبع خطى أهل الريف فزادت معارضتها للثورة؛ معارضة ذات بعد ديني وبعد سياسي أيضا· فالكاثوليكية - بقيادة القسس الذين لم يقسموا يمين الولاء للدستور المدني - استعادوا نفوذهم على شعب كان قد فقد تصديقه للبديل الدنيوي عوضا عن الآمال المعقودة على حياة أخرى فيها العزاء وزاد حنينه إلى الطقوس الدينية والمناسبات المرتبطة بالقديسين، فزاد إهماله للنظام العشري لتقسيم الأيام الذي ابتدعته الثورة The décadi واعتبار اليوم العاشر هو يوم الراحة، وعادوا للاحتفاء بيوم الأحد من كل أسبوع وتوقيره· إن فرنسا تصوت الآن لصالح الرب God.
أما بالنسبة للملك، ففي البيوت والصالونات والشوارع بل وفي تنظيمات الأحياء التي كان العوام ( السانس كولوت) يسيطرون عليها - راح الرجال والنساء يتحسرون على أيام الرجل الطيب لويس السادس عشر bonhomme Louis XVI وراحوا يلتمسون الأعذار لما وقع فيه البوربون من أخطاء وراحوا يتساءلون أيمكن لأي حكومة أخرى غير الملكية الشرعية أن تعيد النظام والأمان والرخاء والسلام وتخرج فرنسا من حالة الفوضى والجريمة التي دمرت فرنسا؟ والمهاجرون العائدون (الذين كانوا قد تركوا فرنسا إثر قيام الثورة) كثر عددهم حتى إن الظرفاء منهم أطلقوا على مقار إقامتهم في باريس اسم "كوبلينز الصغيرة Le petit Coblenz " (إشارة إلى مكان إقامتهم في ألمانيا بعد مغادرتهم فرنسا)، وفي مقارهم في باريس بعد عودتهم كان يمكن للمرء أن يسمع الفلسفات الملكية التي كان يدعوهم إليها خارج فرنسا بونال Banald وميستر Masitre. والجمعيات المنتخبة التي كان يسودها البورجوازيون كانت ترسل إلى مجلس الشيوخ ومجلس الخمسمائة مزيدا من النواب المستعدين لمغازلة النظام الملكي شريطة ضمان الممتلكات· وبحلول سنة 7971 كان أنصار النظام الملكي في المجلسين من القوة بمكان حتى إنهم انتخبوا لحكومة الإدارة الماركيز دى بارثيليمي de Barthélemy ووجدنا لازار كارنو Lazare Carnot عضو حكومة الإدارة منذ سنة 5971 يعود مرة أخرى ألى اليمين ويتخذ موقفا معارضا من دعايات بابيف Babeuf وراح ينظر بعين الرضا إلى الدين باعتباره طعما (تطعيم) ضد الشيوعية·
وشعر الجمهوريون الراسخون من أعضاء حكومة الإدارة - بارا Barras ولارفيليير - ليبو - Larevelliere Lépaux وروبل Rewbell، بالخطر على مناصبهم وحياتهم بسبب الحركة الملكية، فقرروا المخاطرة بكل شيء والقيام بانقلاب يمكن أن يخلصهم من الزعماء الملكيين في كلا المجلسين وفي حكومة الإدارة· وراحوا يطلبون الدعم الجماهيري من اليعاقبة الراديكاليين الذين اختفوا عن الساحة والمرارة في حلوقهم في أثناء حركة المحافظين (المطالبين بالعودة إلى الماضي الملكي)، كما طلبوا الدعم العسكري من نابليون ليرسل لهم من إيطاليا جنرالا ذا كفاءة لتنظيم جنود باريس للدفاع عن الجمهورية· وكان نابليون راغبا في مساعدتهم، فإحياء مطالبات أسرة البوربون بالعرش قد تحبط خططه، إذ كان راغبا في ترك الطريق مفتوحا لوصوله هو للسلطة السياسية، فالوقت لم يصبح مناسبا بعد لهذه المغامرة· فأرسل إليهم قائدا حازما هو بيير أوجرو Pierre Augerau وهو رجل محنك عركته المعارك· فقام أوجرو بضم بعض جنود هوش Hoche للعمل معه، وبهؤلاء الجنود اقتحم في 81 فروكتيدور (شهر الفواكه) المجلسين التشريعيين وقبض على 35 نائبا وكثير من الوكلاء الملكيين كما قبض على عضوي حكومة الإدارة : بارثيليمي Barthélemy وكارنو Carnot ، وهرب كارنو إلى سويسرا وتم ترحيل معظم الباقين إلى جويانا (غيانه) Guiana في أمريكا الجنوبية حيث الكدح والعمل وحيث لا يعرف بهم أحد· وفي انتخابات سنة 7971 سيطر الراديكاليون على المجلسين وضموا كلا من ميرلي Merlin الدووى of Ldouai وجان بابتست تريهارJean - Baptiste Treihard إلى الثلاثة الآخرين في حكومة الإدارة التي تم تعديلها على هذا النحو، وخولوها سلطة تكاد تكون مطلقة(06)·
وعندما وصل نابليون إلى باريس في 5 ديسمبر 7971 وجد إرهابا جديدا موجها إلى المحافظين كلهم، وكل ما كان يفرق بين هذا الإرهاب الجديد والإرهاب القديم، أن الإرهاب الجديد استخدم نفي المعارضين إلى جويانا (غيانه) Guiana بدلا من قطع رقابهم بالمقصلة· ومع هذا فقد بدت الطبقات كلها متفقة على كفاءة هذا الشاب (نابليون) الذي أضاف نصف إيطاليا إلى فرنسا· وقد نحى نابليون جانبا الآن تطلعه إلى القيادة الصارمة، وراح يظهر بمظهر التواضع والاعتدال، وراح يعمل على إرضاء الجميع بطرق مختلفة ؛ إرضاء المحافظين بتمجيد النظام، وإرضاء اليعاقبة بإظهار دوره في نقل إيطاليا من مرحلة العبودية الإقطاعية إلى مرحلة الحرية، وإرضاء المثقفين بكتابته "إن الفتوح الحقيقية تتمثل في القضاء على الجهل، ولا عذر لنا في التواني في القضاء عليه"(16)· وفي 01 ديسمبر قام أصحاب المقام الرفيع في الحكومة الوطنية بتكريمه بشكل رسمي· وكانت مدام دى ستيل Mme . de Stael حاضرة، وقد حفظت لنا مذكراتها هذا المشهد:
"استقبلت حكومة الإدارة الجنرال بونابرت استقبالا مهيبا كان في بعض جوانبه علامة مميزة في تاريخ الثورة وقد اختاروا قصر لوكسمبرج Luxembourg لإقامة هذه المراسم، فلم تكن هناك قاعة من السعة بحيث تتسع لمثل هذا الحشد؛ وتجمع الناس لمشاهدته فوق كل سطح· وقد وقف أعضاء حكومة الإدارة الخمسة - وقد ارتدوا ملابس رومانية - على منصة، وبالقرب منهم كان نواب مجلس الشيوخ ومجلس الخمسمائة وأعضاء المعهد العلمي··
ووصل نابليون وهو يلبس ملابس بسيطة جدا ويتبعه مساعدوه، وكانوا جميعا أطول منه لكنهم كانوا يحترمونه جدا وينحنون له، وشملت النخبة - المتجمعة هناك - الجنرال المنتصر بالتحية والتصفيق· لقد كان نابليون هو أمل الجميع من جمهوريين وملكيين، فالجميع رأوا الحاضر والمستقبل في قبضته"(26)·
وفي هذه المناسبة سلم أعضاء حكومة الإدارة معاهدة كامبوفورميو Campoformio ، فتم اعتمادها رسميا وأصبح نابليون قادرا على قضاء فترة راحة من المشاغل الدبلوماسية ومن الحرب·
وبعد أن حضر نابليون هذا الاحتفال الفخم الذي أقامه تاليران Talleyrand على شرفه (تاليران كان في ذلك الوقت هو وزير الخارجية أو عضو حكومة الإدارة للشئون الخارجية) انسحب نابليون إلى بيته في شارع شانترين Chantereine وقبع فيه يستجم مع جوزفين وأبنائها وكان يسمح لنفسه بالظهور أمام الجمهور فامتدح المعجبون به تواضعه، وراح المقللون من شأنه يبدون سعادتهم بانتهاء دوره، وعلى أية حال فقد دأب على زيارة المعهد العلمي، وراح يتحدث في الرياضيات مع لاجرانج Lagrange وفي الفلك مع لابلاس Laplace وفي نظم الحكم مع سييز Sieyés وفي الأدب مع مارى - جوزيف دى شنييه Marie - Joseph de Chénier وفي الفن مع ديفيد David وربما كان بنشاطه هذا يعد بالفعل للحملة على مصر، ويفكر في أن يصحب معه مجموعة من الدارسين والعلماء·
ورأت حكومة الإدارة في مسلكه المتواضع هذا شيئا غير واضح المعالم يدعو إلى الريبة، فهذا الشاب الذي كان في إيطاليا والنمسا يتصرف وكأنه هو الحكومة، كيف يتخذ قرارا بالتصرف على النحو (المتواضع) في باريس؟ فأرادوا أن يشغلوه ويبعدوه فعرضوا عليه أن يقود خمسين ألف جندي وبحار جمعوهم في برست Brest لغزو إنجلترا· ودرس نابليون المشروع ورفضه وحذر حكومة الإدارة في خطاب بتاريخ 32 فبراير 8971:
"لا بد أن تتخلوا عن محاولة حقيقية لغزو إنجلترا وأن تقنعوا أنفسكم بالاكتفاء بالظهور أمامها (بمظهر القوة) فالأولى هو أن نركز انتباهنا لمواردنا ناحية الراين Rhine ... ويجب ألا نبعد الجيش الكبير عن ألمانيا ··· أو يمكننا إرسال حملة إلى الشرق Levant ونهدد تجارة (إنجلترا ) مع الهند"(36)·
فهناك في الشرق كان حلمه، فحتى عندما كان وسط معامع المعارك في إيطاليا كان يفكر في إمكانيات القيام بغزوة في الشرق: ففي ظل الانهيار التدريجي للدولة العثمانية، فإنه بروح جسور ورجال شجعان جوعى يمكن تشكيل الأمور، وتكوين إمبراطورية· إن إنجلترا تحكم المحيطات ولكن قبضتها على البحر المتوسط يمكن خلخلتها بالاستيلاء على مالطة، وقبضتها على الهند يمكن إضعافها بالاستيلاء على مصر، ففي مصر حيث العمالة رخيصة يمكن بالفرنكات والتفكير السليم بناء أسطول، ويمكن بالشجاعة والخيال الخصب دفع هذا الأسطول عبر البحر والمحيط ليصل إلى الهند والاستيلاء من النظام الاستعماري البريطاني على أغلى ممتلكاته· وقد اعترف نابليون في سنة 3081 لمدام دى ريموسا Rémusat :
" لا أدري ما كان يحدث لي لو لم تواتني الفكرة السعيدة بالذهاب إلى مصر· فعندما غادرت السفن إلى شواطئها لم أكن أعرف سوى أنني قد ودعت فرنسا إلى الأبد، وإن اعتراني قليل من الشك أن فرنسا ستستدعيني· إن سحر فتح بلاد الشرق قد أبعد أفكاري عن أوربا أكثر مما كنت أتصور"(46)·
ووافقت حكومة الإدارة على اقتراحاته، وكان أحد أسباب موافقتها هو اعتقادها أنه سيكون أكثر أمانا (لها) أن يكون هو بعيدا عن فرنسا، ووافق أيضا تاليران Talleyrand لأسباب لا تزال محل خلاف، فمشرفة بيته مدام جراند Mme Grand تفسر ذلك بأنه اتخذ هذا الموقف " لمصلحة أصدقائه الإنجليز "بتحويل مسار الجيش الذي يهدد بغزو إنجلترا إلى مصر(56)· وأخرت حكومة الإدارة موافقتها لأن الحملة مكلفة وتتطلب من الرجال والعتاد ما تحتاجه فرنسا لحماية أراضيها من إنجلترا والنمسا وربما أيضا من تركيا التي قد تنظم في حلف جديد ضد فرنسا ( وكانت السلطة التركية - العثمانية - على مصر متراخية) لكن التقدم السريع للقوات الفرنسية في إيطاليا - ضم الولايات الباباوية ومملكة نابلي - أدى إلى وصول أسلاب متتالية إلى حكومة الإدارة، وفي أبريل سنة 8971 غزا جيش فرنسي آخر - بموافقة نابليون - سويسرا وأقام فيها الجمهورية الهيلفيتية Helvetic وتم جمع "التعويضات" منها، وتم إرسالها إلى باريس· والآن أصبح يمكن الإنفاق على تحقيق حلم الاستيلاء على مصر·
وبدأ نابليون فورا في إصدار أوامر مفصلة لإعداد أسطول فرنسي جديد ( استخدم المؤلف عبارة new armada أي أسطول قوي على نمط الأساطيل الإسبانية والبرتغالية في عصورها الزاهرة)، فكان لا بد من تجميع القوات والمواد التالية في طولون وجنوا وأجاكسيو أو سيفيتا فيشيا Civitavecchia: 31 سفينة حربية وسبع فرقاطات و 53 سفينة قتال أخرى و 031 سفينة نقل، 000·61 بحار و 000·83 جندي (كثيرون منهم كان مع الجيش الفرنسي الذي حارب في إيطاليا) بالإضافة إلى المواد والعتاد الضروري، ومكتبة مكونة من 782 مجلداً· وكان العلماء والباحثون والفنانون سعداء بقبول الدعوة للانضمام إلى ما وصف بأنه اتحاد مثير وتاريخي بين المغامرة (العسكرية) والبحث· وكان من بين هؤلاء العلماء: مونج Monge الرياضي وفورييه Fourier الفيزيائي، وبيرثولي Bertholet الكيميائي· وجيوفرى سان هيلار Geoffroy Saint - Hilaire البيولوجي (عالم الأحياء)· وقام تاييه Tallien بالتنازل عن زوجته لبارا Barras واتخذ سبيله بين العلماء· وقد لاحظ العلماء وقد اعتراهم الفخر أن نابليون أصبح الآن يوقع خطاباته مشفوعة بعبارة " بونابرت عضو المجمع العلمي الفرنسي والقائد العام"(66)· وبوريين Bourrienne الذي كان قد رافق نابليون كسكرتير له في كومبوفورميو في سنة 7971، صحبه أيضا في هذه الرحلة (إلى مصر) وقدم لنا رواية مفصلة عن مصيرها· وأرادت جوزفين أيضا أن تواصل الرحلة، فسمح نابليون لها بمرافقته حتى طولون لكنه منعها من ركوب السفن، وعلى أية حال فقد أخذ معه ابنها يوجين بوهارنيه Eugéne Beauharnais الذي كان نابليون قد أحبه لتواضعه وكفاءته وولائه وقوة إخلاصة، وقد حزنت جوزفين حزنا مضاعفا لهذا الفراق؟ أيمكنها أن ترى ابنها أو زوجها مرة أخرى بعد هذا الفراق؟ ومن طولون اتجهت جوزفين إلى بلومبيير Plombiéres لتتناول "مياه الخصوبة Fertility waters " لأنها أصبحت الآن - وكذلك نابليون - تريد طفلا·
وفي 91 مايو سنة 8971 أبحر الأسطول الأساسي من طولون ليكرر في التاريخ الحديث إحدى روايات تاريخ العصور الوسطى·