قصة الحضارة -> عصر نابليون -> ملوك أوروبا في مواجهة التحدي -> الفلسفة الألمانية -> شيلنج

2- شيلنج


5771 - 4581


رغم أن فيشته اعترف بوجود عالم خارجي (عالم خارج الأنا) إلا أن فلسفته كانت غالبا ما تتحاشى ذكره (أي ذكر هذا الوجود خارج الذات) إلا من خلال مروره (وتنقيته) من خلال الإدراك (البشري)· أما فريدريش فيلهلم جوزيف فون شيلنج فرغم حرف الجر (Von) الدال على أرستقراطيته، فقد كان - بالفعل - قد قبل الطبيعة nature ووحدها مع العقل في كيان مشترك يكون الله أو بتعبير آخر كان الله عنده هو الطبيعة والعقل مندمجين في كل واحد·
لقد كان شيلنج ابنا لقس بروتستانطي (من أتباع لوثر) في فيرتمبرج Wurttemberg، وكان أبوه من ذوي الممتلكات، وراح يعد ابنه ليشغل منصبا كهنوتياً (ليكون أحد رجال الدين)، فألحقه بكلية اللاهوت في توبنجن Tubingen، وهناك أصبح شيلنج وهولدرلين Holderlin وهيجل يشكلون مجموعة نشيطة من الدارسين الراديكاليين الذين احتفوا بالثورة الفرنسية وأعادوا تعريف الإله (أي تحديد معنى جديد له) وأقاموا فلسفة جديدة قائمة على المزج بين أفكار سبينوزا وكانط وفيشته· وأضاف شيلنج قصيدة بعنوان عقيدة أبيقوري The Creed of an Epicurean(32) ويمكن أن يتنبأ المرءُ مطمئناً أن هؤلاء الشباب اليافعين سيكون اتجاههم محافظاً يحترم القديم·
واشتغل لبضع سنين مدرساً، مثل فيشته وهيجل ونشر وهو في العشرين مقالاً عن أسس الفلسفة (5971) لفت أنظار فيشته وضمن لشيلنج دعوة لتدريس الفلسفة في يينا Jena، وكان وقتها في الثالثة والعشرين· وكان راضياً - لفترة - بوصف نفسه بأنه أحد أتباع فيشته· وأنه يقبل العقل كحقيقة وحيدة، لكن في يينا Jena، وبعد ذلك في برلين انضم للرومانسيين وأتاح لنفسه نشوة عابرة: لن أطيق هذا طويلاً، لابد أن أمارس الحياةَ بشكل أعمق، لا بد أن أترك حواسي حرّة - فهذه الحواس هي - تقريباً - أساسي الذي خرجت منه (اشتُقِقتُ منه) على وفق ما تقول به النظريات الكبرى التي تتناول ما وراء الخبرة البشرية transcendental theories ولكنني أيضاً سأعترف الآن كيف أن قلبي يثب والدماء الحارة تندفع في عروقي·· ليس لي دين إلا هذا، وهو أنني أحب الرُّكب الجميلة التكوين والصدور الناهدة والخصور النحيلة والورود التي تفوح عطراً، والإرضاء الكامل لرغباتي، وتلبية كل حب أطلبه، وإذا كان لا بد أن يكون لي دين (رغم أنني أستطيع أن أعيش بدونه بسعادة أكثر) فلا بد أن يكون هذا الدين هو الكاثوليكية في شكلها القديم حيث كان القسس والمصلون من غير رجال الدين يعيشون معاً·· ويمارسون يومياً في بيت الرب House of God المرحَ الصاخب ويعربدون(42)·
ومن المعقول أن يكون هذا العاشق المتحمس للحقيقة المادية الملموسة مروِّعاً للهالة المثالية المحيطة بفيشته في يينا Jena، والتي ظلت - أي هذه الهالة - وراءه حتى بعد أن غادر يينا إلى برلين، لقد عرَّف شيلنج قضية الفلسفة الأساسية بأنها المأزق الواضح بين المادة والعقل، إذ كان من المستحيل (من وجهة نظره) أن نفكر في أن أحدهما ينتج عنه الآخر، وانتهى (وهو في هذا يعود مرة أخرى إلى فكر سبينوزا) إلى أنَّه أفضل مخرج من هذا المأزق هو أن نفكر في المادة والعقل كوجهين لحقيقة واحدة معقدة ولكنها متحدة فكل فلسفة تقوم على العقل الخالص وحده هي فلسفة سبينوزية (نسبة إلى سبينوزا Spinoza) أو ستصبح كذلك، لكن هذه الفلسفة في رأي شيلنج منطقية على نحو صارم لكن بشكل يُفقدها الحيوية إن الإدراك الدينامي للطبيعة لابد أن يُحدث تغييراً أساسياً واحداً في فكر سبينوزا Spinozism·· فالإسبينوزية صارمة صرامة شديدة كتمثال بيجماليون Pygmalion تحتاج إلى أن يكون فيها روح(52) تلك هي أفكار شيلنج كما عرضها في مقاليه: صورة مبدئية لنظام الفلسفة الطبيعية (9971) ومقال آخر عن المثالية (0081)·
واقترح شيلنج ليجعل هذه الأَحَدِيّة المنطوية على الثنائية dualistic monism أكثر وضوحاً - أن نفكر في القوة force أو الطاقة energy كجوهر داخلي (باطني) للمادة والعقــل· وفـي أي مـن الحالتـين لا نعـرف إلـى أي منهمـا (المـادة أو العقـل) ترجـع هـذه القوّة، لكن ما دمنا نرى هذه (القوة) أو (الطاقة) تظهر في الطبيعة بأشكال تتطور دائماً لتكون أكثر دقّة وحذقا - تنافر الجزئيات، إحساس النبات أو تحرك زوائد الأميبا (الكائن وحيد الخلية) لتتلمس طريقها أو تتعلّق بها، وحركة الشمبانزي السريعة الذكية، والعقل الواعي للإنسان - فإنه يمكننا استنتاج أن الله المهيمن على كل شيء ليس هو المادة فقط وليس هو العقـل فحسـب وإنمــا هــو وِحْـدة بينهمـا فــي بانورامــا باهـرة مــن الأشـكال والقـوى· لقـد كان شيلنج هنا يكتب شعراً وفلسفة في آن واحد، وقد وجد وردزورث وكولردج فيه روحاً مماثلة لهما تسعى لبناء عقيدة جديدة لأرواح سيطر عليها العلم لكنها تتطلَّع بشوق إلى إله·
وفي سنة 3081 غادر يينا Jena ليدِّرس في جامعة فيرتسبورج Wurzburg المفتتحة حديثاً فواصل كتابة مباحثه الفلسفية التي كان ينقصها قوة فلسفته الطبيعية وفعاليتها· وفي سنة 9081 ماتت زوجته مُلهمة حياته كارولين، فكأنها أخذت معها نصف حيويته، وتزوج مرة أخرى (2181) وراح يكتب بشكل متقطع ولكنه لم ينشر شيئاً بعد سنة 9081 فقد أصبح هيجل Hegel في هذه الفترة هو سيد الفلسفة بغير منازع أو بتعبير آخر أصبح هيجل هو نابليون الفلسفة الذي لا يجرؤ أحد على تحدّيه·
وفي سِنِي انحداره راح شيلنج يجد سلواه في الاتجاه الباطني (الصوفية mysticism) وفي شروح وتفسيرات واقعة وراء نطاق الخبرة البشرية للتناقص الظاهري بين إله محبوب (ومُحِب) وطبيعة حمراء الأسنان والمخلب وبين جَبْرية العلم من ناحية وحرية الإرادة (الاختيار) اللازمة للمسؤولية الأخلاقية· وأخذ عن جاكوب بوهم Jakob Bohme (5751 - 4261) فكرة أنَّ الله نفسه يتنازعه الخير والشر أو بتعبير آخر هو نفسه ساحة معركة بين الخير والشر وعلى هذا فالطبيعة (بدوْرها) تتذبذب بين موقف الكفاح لفرص النظام من ناحية والاستسلام للفوضى (الهيولى) من ناحية أخرى، وفي الإنسان نفسه شيء أساسي غير مقبول عقلياً(62)· لكن في النهاية كما يعد شيلنج قراءهُ سينتهي كل شر وستنجح الحكمة الإلهية لتحويل جرائم البشرية وسخافاتها إلى الخير (72)·
لكن شيلنج لم يعد مرتاحاً لفترة طويلة وهو يرى هيجل يجمع فوق رأسه كل تيجان الفلسفة، ورغم أن شيلنج عاش بعد موت هيجل ثلاثة وعشرين عاماً، إلا أن تلاميذ هيجل ظلوا بعد موته يقسمون بينهم تراث أستاذهم (الديالكتيكية) بين الشيوعية ورد الفعل· وفي سنة 1481 وجّه الملك فريدريك وليم الرابع الدعوة لشيلنج لشغل كرسي الفلسفة في جامعة برلين، وكان الملك يأمل أن يستطيع شيلنج المحافظ وقف الاتجاه الراديكالي·
لكن شيلنج لم يستطع جذب تلاميذه واندفعت الأحداث في طريقها للثورة، فكان لابد من التخلّي عن الفلسفة·
ومع هذا فقد كان وردزورث بالفعل قد صاغ أفكار شيلنج الحيّة عن وحدة الوجود في أشعار فخمة(82)، وعزا إليه كولردج - مع استثناءات معينة أهم انتصارات الثورة الكانطية في الفلسفة(92) وبعد موت شيلنج بنصف قرن قال هنري بيرجسون - باعث المذهب الحيوي من جديد - إن شيلنج واحد من أعظم الفلاسفة في كل العصور(03) ولو كان هيجل قد سمع هذا الكلام لاعترض عليه·



صفحة رقم : 14734