قصة الحضارة -> عصر نابليون -> الثورة الفرنسية -> الجمعية الوطنية -> الباستيل

2- الباستيل



في 12 يوليو اعتلى كاميل ديمولين Camille Demoulins الجزويتي (اليسوعي) المتخرج، منضدة خارج مقهى دي فويCafé de Foy بالقرب من القصر الملكي وأعلن خبر طرد نيكر واستدعاء القوات الأجنبية وراح يصرخ "إن الألمان سيدخلون باريس هذه الليلة ليذبحوا سكانها" وراح يحث مستمعيه على تسليح أنفسهم وقد نفذوا ما أشار به لأن المجلس البلدي الجديد لم يبد إلا مقاومة واهية عندما كسروا الأبواب وصادروا الأسلحة المخزونة في دار البلدية· لقد أصبح الثوار المسلحون يستعرضون الآن قوتهم في الشوارع رافعين تماثيل نصفية لنيكر ودوق أورليان Duc d`orléans مزينين قبعاتهم بأشرطة ذوات عقد خضراء· وعندما أصبح معروفا أن هذا اللون هو أيضا لون ملابس خدم الكونت المكروه (كونت درتوا (Conte d` Artois الأخ الأصغر للملك وكذلك حرسه، فإنهم سرعان ما غيروا ألوان عقد أشرطة قبعاتهم ليجعلوها حمراء وبيضاء وزرقاء - الألوان التي تمثل العلم الوطني·
وأغلق رجال البنوك البورصة وكونت الطبقة الوسطى ميليشيا خاصة بها أصبحت هي نواة الحرس الوطني بقيادة لافاييت Lafayette ؛ كل ذلك خوفاً من عنف طائش لا يميز وتدمير للممتلكات وذعر مالي· ومع هذا فإن بعض الوكلاء البورجوازيين - رغبة منهم في حماية الطبقة الوسطى التي أصبحت آمنة الآن - أسهموا في تمويل المقاومة الشعبية للملكية المطلقة وجذب الحرس الفرنسي من أحضان الملكية صوب المشاعر الديمقراطية(14)· وفي 13 يوليو أعيد تشكيل الجماهير فانضم إليهم عدد كبير من أحياء الفقراء وأتاهم مدد جديد من الجنود الجدد من كل حدب وصوب، وغزت هذه الجماهير المتزايد عددها مخزن السلاح في مستشفى المحاربين القدماء Hotel des Invalides واستولت على 28.000 بندقية (مسكت) وبعض المدافع، وخشي بيسينفال Besenval أن تطلق هذه الكتائب الشعبية النار على الشعب فاحتفظ بهم في الأحياء الجانبية، وعلى أية حال فقد أصبحت الجماهير المسلحة تسيطر الآن على العاصمة·
كيف يتم تصريف طاقات هذه القوى؟ لقد اقترح كثيرون توجيهها في محاولة للاستيلاء على الباستيل، ذلك الحصن القديم الواقع في الجانب الشرقي من باريس والذي شرع في بنائه منذ سنة 1370 وجرت توسعته شيئا فشيئاً في السنوات اللاحقة بقصد احتجاز وسجن من يحيق بهم غضب الملك أو النبلاء، وعادة ما كان ذلك يتم من خلال أوامر سجن تصدر بشكل سري من الملك Letters de Cachet، وفي سنة 1784 طلب من المهندس المعماري وضع خطط لتدمير الزنزانات الكئيبة(15) من غير أن يعلم الناس بهذه الأوامر فقد كانوا يظنون أن الباستيل يضم زنزانات يقبع بها ضحايا الحكم الاستبدادي·
بل إنه لم يكن لدى الثوار نوايا - كما هو ظاهر - بتحطيم حصن الباستيل لكنهم بعد أن قضوا ليلة استراحوا فيها تقاربت آراؤهم حول فكرة التدمير في 14 يوليو، ذلك اليوم الذي سيصبح عيدا وطنيا لفرنسا· لقد كان هدفهم هو أن يطلبوا من محافظ السجن أن يسمح لهم بالدخول ويتناولوا البارود والأسلحة النارية التي ذكرت التقارير أنها موجودة خلف جدرانه، ولم يجدوا حتى الآن إلا القليل من البارود ولم تكن بنادقهم الكثيرة ومدافعهم القليلة - بلا مزيد من البارود - قادرة على منعهم إذا وجه بيسينفال Besenval كتائبه إليهم· وعلى أية حال فإن هذه الجدران ذوات السماكة البالغة ثلاثين قدما والارتفاع البالغ مائة قدم التي تحميها أبراج مزودة بالمدافع، والمحاطة بخندق يبلغ عرضه ثمانين قدما - كانت كتحذير كاف· وانضم أعضاء المجلس البلدي الجديد للجماهير وعرضوا التدخل لدى محافظ الباستيل لعقد ترتيبات سلام·
وكان محافظ الباستيل هو برنارد - رينيه جوردان Bernard - Rene` Jordan, Marquis de Lavnay رجلاً من المؤكد أنه مثقف ولطيف المعشر(16)، فقد استقبل المفوضين من الجماهير بترحاب، وعرض المفوضون أن يضمنوا أن يتصرف الثوار بشكل سلمي إذا هو أزاح المدافع من مواقع الإطلاق· وإذا أمر جنوده وكان عددهم 114 جنديا بعدم إطلاق النار، ووافق المحافظ واستضاف الزوار لتناول الغداء·
وتلقت لجنة أخرى ضمانا مشابها، ولكن المحاصرون راحوا يصيحون قائلين إنهم يريدون ذخيرة لا وعودا وكلمات·
وبينما الطرفان يتفاوضان تسلق بعض العمال النشيطين إلى مراكز التحكم ودلوا الجسرين المتحركين فاندفع المهاجمون عبر هذين الجسرين إلى ساحة الباستيل، فأمرهم دي لوني de Launay المحافظ الآنف ذكره بالتراجع لكنهم رفضوا، فأطلق عسكره النار عليهم، وتغلب الثائرون المقتحمون عندما قام الحرس الفرنسي بإحضار خمسة مدافع وبدأ في تدمير أسوار الحصن، فتحت هذا الغطاء من النيران اندفع جمهور الثائرين إلى داخل السجن واشتبكوا في معركة مع جنود الحرس، وتلاحم الطرفان فسقط من المهاجمين ثمانية وتسعون· كما قتل واحد من المدافعين، وازداد المهاجمون عدداً وشراسة وعرض دى لوني De Launay محافظ السجن أن يسلم إذا سمح الثوار لرجاله بالخروج سالمين بأسلحتهم، لكن قادة الجماهير الثائرة رفضوا ذلك، فاستسلم فقتل المنتصرون ستة عساكر آخرين وحرروا سبعة سجناء واستولوا على الذخائر والأسلحة وأسروا محافظ السجن دى لوني واتجهوا مظفرين إلى دار البلدية· وفي الطريق كان جانب من الجماهير مغيظا محنقاً بسبب ما مر بهم من كوارث فضربوا رجلا أرستقراطيا اعتراه الارتباك والذهول وأجهزوا عليه وقطعوا رأسه ورفعوه على رمح، وقطع رأس جاك دى فليسيل Jacques de Flesselles شهبندر التجار والذي كان قد ضلل الناخبين عن موضع الأسلحة، وأضيف رأسه المقطوع إلى موكب الثوار، وكان قد جرى قطعه في بلاس دى جريف Place de Greve (ميدان الرمال)·
وفي 15 يوليو جعل ناخبو الجمعيات المحلية من باييه Bailly محافظا لباريس (رئيساً لبلديتها (Mayor واختاروا لافاييت Lafayette رئيسا للحرس الوطني الجديد، وبدأ العوام السعداء (السانس كولوت أي الذين لا يرتدون سراويل (بناطيل) قصيرة) في تدمير أحجار الباستيل حجراً حجراً، أما الملك الذي اعترته الصدمة وأصابة الرعب فقد ذهب إلى الجمعية الوطنية وأعلن أنه طرد الكتائب العسكرية التي سبق أن جلبها إلى فرساي وباريس· وفي 16يوليو نصحه مؤتمر من النبلاء بمغادرة البلاد تحت حماية الكتائب المغادرة وأن يجد لنفسه ملاذا في إحدى عواصم المقاطعات أو في بلاط أجنبي، وأيدت مارى أنطوانيت بحرارة هذا الاقتراح وجمعت جواهرها وما غلا ثمنه وسهل حمله استعداداً للرحلة(17) أما لويس فقد استدعى نيكر في 17 يوليو، وابتهج لذلك رجال المال والعامة، وفي 18 من الشهر نفسه اتجه إلى باريس وزار دار البلدية ووقع بقبوله المجلس البلدي الجديد وثبت على قبعته الشريط ذا الألوان: الأحمر والأبيض والأزرق، وهي التي ترمز للثورة، وعاد إلى فرساي وعانق زوجته وأخته وأطفاله وقال لهم : "يسعدني ألا يسفك مزيد من الدماء، وإنني أقسم ألا تسفك قطرة دماء فرنسية بأمري"(18) أما أخوه الأصغر كونت درتوا Comte d`Artios فقد أخذ معه زوجته ورئيسة الخدم(19) وقاد أول مجموعة من اللاجئين السياسيين emigres خارج فرنسا·



صفحة رقم : 14542