قصة الحضارة -> عصر نابليون -> الثورة الفرنسية -> الجمعية الوطنية -> دخول مارا

3- دخول مارا


Marat


1789


لـم يكـن الاسـتيلاء علـى الباسـتيل مجـرد عمـل رمزي ومجرد سهم ضد الحكم الاستبدادي، وإنما كان عملاً أنقذ الجمعية الوطنية من الخضوع لجيش الملك في فرساي كما أنقذ حكومة باريس الجديدة من أن تحكم الكتائب العسكرية التي تطوق باريس سيطرتها عليها· لقد حافظت هذه العملية - بشكل غير مقصود تماما - على الثورة البورجوازية، لكنها أتاحت لأهل باريس السلاح والذخيرة، وسمحت بذلك لتطورات أبعد مدى للقوى البرولتيارية·
لقد أدى سقوط الباستيل إلى إعطاء دفعة جديدة، للصحف التي زاد ولع الباريسيين بها فزاد عدد قرائها· وكانت صحيفة فرنسا Gazette de France) جازيت دي فرانس) ومؤشر فرنسا Mercure de France) مركير دي فرانس) وجريدة باريس Journal de Paris) جرنال باريس) من الصحف القديمة التي ظلت محافظة على مستواها بعد أحداث الثورة، أما الآن فقد أصدر لوستالو Loustalot صحيفة ثورات باريس Les Revolutions de Pris في 17 يوليو 1789 وأصدر بريسو Brissot الوطني الفرنسي (لوباتريوت فرانسيه)(LePatriote Francais) في 28 يوليو، وأصدر مارا Marat صديق الشعب (لامى دي بيبل (L`Ami du peuple في 12 سبتمبر، وأصدر دى موليه Desmoulins صحيفة ثورات فرنسا Revolutions de France في 28 نوفمبر····· وبالإضافة لهذه الصحف كانت اثنتا عشرة نشرة تظهر كل يوم تصفق لحرية الصحافة، وترفع صورا جديدة· وقيما جديدة، وتحطم ما جرى العرف على توقيره·
ويمكننا أن نتخيل محتوى هذه النشرات بملاحظة أصل الكلمة Libel والذي يعنى "يطعن أو يقذق أو يشهر" فمن هذه الكلمة كان المسمى الفرنسي لهذه النشرات وهو ليبل Libelles أي الكتب الصغيرة المخصصة للسب والهجاء·
وكان جان - بول مارا Jean - Paul Marat هو أكثر هؤلاء الصحفيين الجدد راديكالية وتهورا وقسوة وكان هو أقواهم وأكثرهم تأثيرا· ولد في نوشاتل Neuchatel في سويسرا في 24 مايو سنة 1743 من أم ملكية وأب سرديني Sardinian) من سردينيا) ولم يكف أبداً عن تبجيل روسو Rousseau وهو وطني آخر اغترب عن بلده· درس مارا الطب في بوردو Bordeaux وباريس، ومارسه في لندن(1765-1777) وحقق قدراً معقولاً من النجاح في هذه المهنة· أما القصص التي رويت بعد ذلك عن الجرائم والسخافات التي ارتكبها فربما كانت من تدبير أعدائه في جو الحرية الصحفية التي أسيىء استخدامها في ذلك الوقت(20)· ومنحته جامعة سانت أندرو St.Andrews درجة فخرية (شرفية)، وعلى أية حال فهي درجة كما قيمها جونسون Johnson كانت أهميتها تزداد على وفق الدرجات العلمية السابقة عليها(21)· وقد كتب مارا بالإنجليزية ونشر في لندن (1774) كتابه قيود العبودية The Chains of Slavery وهو شجب عنيف للحكومات الأوروبية باعتبارها مجموعة من المتآمرين من الملوك واللوردات والإكليروس لخداع الشعوب والاحتفاظ بولائها وتبعيتها· وعاد مارا إلى فرنسا في سنة 1777 وعمل طبيباً بيطرياً في إسطبلات كونت درتوا Comte d` Artois ثم رقي طبيباً لحرس مخافر الكونت· وحقق بعض الشهرة في علاج الرئة وفي طب العيون· ونشر بحوثاً في الكهرباء والضوء والبصريات والنار، وترجمت بعض بحوثه إلى الألمانية· وظن مارا أنه جرى تعيينه لعضوية أكاديمية العلوم Academic des Sciences ولكن هجومه على نيوتون Newton جعله موضع شك الأكاديميين·
وكان مارا Marat رجلا شديد الكبرياء، وكانت العلل الجسدية تتناوب عليه فتعوقه وتجعله نزقـا سـريع الغضـب إلى حـد الهيـاج الشديد· وكان مصابا بالتهابات جلدية جعلته يجد راحة لبعض الوقت في الجلوس في الماء الساخن، وكان يكتب وهو بالفعل جالس في هذا الماء الساخن(22) وكان ذا رأس ضخم جداً إذا قورن بطوله الذي لا يزيد عن خمسة أقدام، وكانت إحدى عينيه أعلى من العين الأخرى· من المفهوم إذن لم كان يفضل العزلة· وكان الأطباء يعالجونه بفصد دمه بين الحين والحين لتخفيف آلامه· وكان يعمل بجد شديد وكان يقول عن نفسه إنني لا أقضي في النوم سوى ساعتين·· إنني لم أستمتع بخمس عشرة دقيقة من اللعب طوال أكثر من ثلاث سنين "(23)· وفي سنة 1793 أصيب بداء الرئة وشعر أنه لن يعيش طويلا، وربما كانت إصابته هـذه بسـبب طـوال مكوثه في البيـت· وكانـت هـذه الحقائـق غير معروفة لشارلوت كورداى Charlotte Corday·
لقد تأثرت شخصيته بعلله الجسدية، فعوض نقصه بالخيلاء والغرور وعمل تقلب مزاجه وادعاؤه العظمة وشجبه الضاري لكل من نيكر Necker ولافاييت Latayette ولافوازيه Lavoisier ودعوته المجنونة للعنف الجماهيري·· كل أولئك زاد من وطأته قدر من الشجاعة والحرفية والتكريس·
ولا يرجع نجاح جريدته لمجرد المبالغات المثيرة التي يتسم بها أسلوبه فحسب وإنما يرجع في الأساس إلى تأييده المتواصل والمتحمس للبرولتياريا الذين لا أصوات لهم، ذلك التأييد الذي كان لا ينطوي على أي نوع من الرشوة·
ومع هذا فهو لم يكن يبالغ في تقدير ذكاء الشعب· لقد كان يرى الفوضى ضاربة أطنابها، وأضاف إليها فوضى جديدة من عنده لكنه على الأقل في ذلك الوقت لم يكن يدعو إلى الديمقراطية وإنما إلى الديكتاتورية والثورة والاغتيال تماما كما كان يحدث في أيام روما الجمهورية، بل إنه قد اقترح أن يكون نفسه هو هذا الديكتاتور المطلوب(42)· وفي بعض الأوقات كان يرى أن الحكومة يجب أن تكون في قبضة الملاك (أصحاب الثروة) طالما أن لديهم العصا الطولى التي تستخدم لصالح الجمهور(52)· وكان يعتبر تركز الثروة أمر ا طبيعيا لكنه اقترح موازنة ذلك بالدعوة إلى أن الرفاهية أمر ينطوي على الفسق، وإلى الحق المقدس للجائع والمحتاج·
"لا شيء فائض عن الحاجة يمكن أن يكون من وجهة نظرنا شرعيا طالما أن الآخرين يعانون من نقص الضروريات··· فمعظم الثروات الكنسية يجب أن يتم توزيعها على الفقراء، ولا بد من إنشاء المدارس المجانية في كل مكان "(62) " إن المجتمع يضم أولئك الذين لا يملكون شيئا والذين قلما يكفي حصاد عملهم لإعاشتهم، والمجتمع ملزم بالنسبة لهؤلاء أن يدبر لهم مورد رزق لتمكينهم من إطعام أنفسهم والسكنى واللباس بشكل مناسب، وعلى المجتمع أن يدبر الوسائل لعلاج المرضى منهم ورعاية كبار السن وتدبير وسائل تنشئة أطفالهم· وهؤلاء الذين يتمرغون في الثروة والنعيم لا بد لهم من إمداد المعوزين بضروريات الحياة" وإن لم يفعلوا يصبح من حق الفقراء أن يحصلوا بالقوة على ما يحتاجونه(72)·
وقد ارتاب معظم أعضاء الجمعيات المتتابعة في مارا وخافوا من أفكاره، لكن السانس كولوت Sans culottes ( الذين لا يرتدون سراويل >بناطيل< قصيرة(ü)) من بينهم كانوا يتسامحون مع أخطائه بسبب فلسفته، بل وكانوا يخاطرون بإخفائه إذا ما جدت الشرطة في البحث عنه· ولا بد أن مارا Mara كان يتحلى ببعض الصفات المحبوبة لأن رفيقته(زوجته التي تزوجها عرفيا أي بمجرد اتفاق الطرفين دون طقوس كنسية) ظلت مخلصة له إلى النهاية·



صفحة رقم : 14543