قصة الحضارة -> عصر نابليون -> الثورة الفرنسية -> الجمعية الوطنية -> الدستور الثوري

6- الدستور الثوري


0971


وشرعت الجمعية الوطنية في كتابة الدستور الذي يحدد ويقنن منجزات الثورة، وكانت في عملها هذا متحررة من الضغوط الملكية، لكنها كانت واعية بشكل قلق للمدينة(باريس) التي تراقب أفعالها·
بادىء ذي بدء، أيجب الإبقاء على الملكية؟ لقد أبقت الجمعية عليها وسمحت أن تكون وراثية، لأنها أي الجمعية خشيت من انتقال الولاء ومشاعر الانتماء من العرش للأمة، فالهالة المحيطة بالملكية كانت أمراً ضروريا للانضباط الاجتماعي، ويمكن أن يكون حق انتقال الملك ضمانا يمنع نشوب حروب الوراثة ومثل هذه المشروعات المتعلقة بضبط وراثة العرش كانت بالفعل تختمر في ذلك الوقت في القصر الملكي· لكن سلطات الملك لا بد من تحديدها بصرامة، فستقدم له الجمعية الوطنية في كل سنة قائمة "بالمخصصات الملكية" لإنفاقه، وسيحتاج أي إنفاق يزيد عن هذه "المخصصات" إلى إصدار تشريع جديد·
وإذا غادر الملك المملكة الفرنسية بلا إذن الجمعية الوطنية أمكن عزله عن العرش· ومن حق الملك أن يختار وزراءه وعزلهم لكن على كل وزير أن يقدم تقريرا شهريا عن تصرفاته المالية في نطاق الميزانية المنوطة به ويمكن استجوابه في أي وقت أمام المحكمة العليا· والملك هو الرئيس الأعلى للجيش والبحرية لكنه لا يستطيع إعلان الحرب أو توقيع معاهدة بلا موافقة مسبقة من المجلس التشريعي، ومن حقه أن يعترض على أي تشريع يقدم له لكن إذا أقرت ثلاثة مجالس تشريعية متوالية هذا التشريع الذي اعترض عليه اعتبر هذا التشريع قانونا (بصرف النظر عن اعتراضه)·
والمسألة الثانية: أيحب أن يكون المجلس التشريعي مكونا من هيئتين كما هو الحال في إنجلترا وأمريكا؟ ويمكن للهيئة العليا أن تبتَّ في الأمور المستعجلة، لكنها يجب ألاّ تكون مكونة من أفراد الطبقة الأرستقراطية أو كبار السن· وقد رفضت الجمعية الوطنية ذلك فباعتبارها حارسا على منجزات الثورة أعلنت إبطال المزايا والألقاب الوراثية كلها فيما عدا تلك الخاصة بالملك·
ويقوم "المواطنون الفعالون" ويقصد بهم فقط أولئك الذكور البالغون ذوو الممتلكات الذين يدفع الواحد منهم ضريبة مباشرة تبلغ ما يساوي قيمة عمل ثلاثة أيام،وهذا التعريف يشمل الفلاحين الأثرياء لكنه لا يشمل الأجراء والبرولتياريا، إذ جرى اعتبار هؤلاء "مواطنين سلبيين" لأنه يسهل على سادتهم وعلى الصحفيين التأثير فيهم ليصبحوا أداة للفوضى والعنف والتراجع· وعلى وفق هذا الترتيب تمتع 063·982·4 رجلا (من بين 52 مليون نفس) بحق الانتخاب في فرنسا في سنة 1971، وأصبح ثلاثة ملايين بالغ لا حق لهم في التصويت· لقد أقرت الجمعية الوطنية البورجوازية ثورة البورجوازيين خوفاً من جماهير المدينة (باريس)·
وقسم الدستور فرنسا على وفق أغراض انتخابية وإدارية إلى ثلاث وثمانين دائرة (محافظة أو قسم إداري كبير) تنقسم كل دائرة منها إلى بلديات (كومونات Communes ) بلغت 063·34 كومون (بلدية)· لقد أصبحت فرنسا للمرة الأولى أمة موحدة بلا أقاليم أو مناطق ذوات امتيازات وبلا رسوم انتقال داخلي، وأصبحت مناطق فرنسا جميعا تستخدم نظاما واحدا للمقاييس والمكاييل وتخضع للقوانين نفسها· والعقوبات حددها القانون ولم تعد على وفق تقدير القاضي، وتم إبطال التعذيب والتشهير والكي بالنار، ومع هذا فقد تم الإبقاء على عقوبة الإعدام، وكان هذا مثار سخط روبيسبير Robespierre ، وأصبح المتهمون بارتكاب جرائم يمكنهم أن يختاروا المحاكمة أمام هيئة محلفين من "المواطنين الفعالين" تختارهم الهيئة القضائية، ويكفي أن يؤيد ثلاثة من اثني عشر عضوا في هذه الهيئة تبرئة المتهم، لاعتماد براءته· ويقضي القضاة في القضايا المدنية·
أما البرلمانات القديمة التي كانت سببا في ظهور أرستقراطية ثانية فقد حلت محلها نظم قضائية جديدة تقوم جمعيات منتخبة بتعيين أفرادها· أما المحكمة العليا فيتم اختيارها من ممثلي العدالة في المحاكم الجنائية الأدنى درجة، بحيث يكون في هذه المحكمة العليا عضوان من كل محافظة (دائرة)·
بقيت مسألتان مهمتان مرتبطتان معا هما: كيف يتم تجنب إفلاس المملكة؟ وكيف يتم تنظيم العلاقة بين الكنيسة والدولة؟ لقد فشلت الضرائب في تمويل الحكومة بينما الكنيسة تقبض بيديها على ثروة تحسد عليها ولا تدفع عنها ضرائب·
وقد أخذت الجمعية برأي شارلز موريس دى تاليران بيريجور Charles Maurice de Talleyrand Perigord أسقف أوتون Autun الذي اقترح في 11 أكتوبر سنة 9871 الاستفادة من ممتلكات الكنيسة لدفع الدين الوطني·
وتاليران Talleyrand هذا واحد من الشخصيات التي ثارت حولها الشكوك في التاريخ إذ يرجع أصله إلى أسرة عريقة معروفة بخدماتها العسكرية وربما كان من الممكن أن ينهج نهج أسرته لو لم تنخلع قدمه إثر سقطة وهو في الرابعة من عمره وكان عليه أن يشق حياته بقدم عرجاء لكنه كان مصمما على اجتياز كل عقبة تواجهه، وقد عهد به والده إلى الكنيسة، وقد قرأ في مرحلة الدراسة فولتير ومنتسكيو وكان يحتفظ دائما بخليلة، ومن الواضح أنه طرد من المدرسة اللاهوتية التي كان بها في سنة 5771 لكن في تلك السنة وكان في الواحدة والعشرين من عمره عينه لويس السادس عشر مسئولا عن دير القديس (سان) دينيس St- Denis في رايم Reims وقد جرى ترسيمه قسيسا في سنة 9771 وفي اليوم التالي أصبح هو النائب الأسقفي العام لعمة رئيس أساقفة رايم Reims ، وظل مع هذا ينعم بصحبة السيدات ذوات الأصول الراقية وأنجب من إحداهن غلاما أصبح ضابطا تحت قيادة نابليون· وفي سنة 8871 تم تعيينه أسقفا لأوتو Autun رغم معارضة أمه التقية التي كانت تعلم أنه رجل قليل الإيمان (رقيق العقيدة)· ومع هذا فقد رتب أمر تقديم برنامج إصلاحي لمجلس طبقات الأمة مما دفع رجال الدين (الإكليروس) التابعين له لجعله مندوبا عنهم(04)·
وقد وافقت الجمعية الوطنية في 2 نوفمبر سنة 9871 بأغلبية 805 ضد 643 على تأميم الممتلكات الكنسية التي كانت تصل قيمتها وقتئذ إلى ثلاثة بلايين فرنك(14) رغم المعارضة اليائسة لممثلي الإكليروس بها· وقد عهدت الجمعية للحكومة "بتقديم مصاريف إقامة العبادات العامة وتقديم الإعانات لرجال الدين وما يفرج عن الفقراء، وذلك بالطريقة المناسبة" وفي 91 ديسمبر خولت صندوق الأمور غير العادية Cousse de Lصextraordinaire ببيع 004 مليون فرنك مقابل أسينات assignats وهي أوراق نقدية تعطى لحائزها الحق في مبلغ مقرر (معلوم) من الممتلكات الكنسية بفائدة قدرها 5% عند إتمام البيع ودفعت الحكومة من هذه الأسينات assignates الديون العاجلة وبذا ضمنت دعم الجماعات المالية لنظام الحكم الجديد·
لكن الذين اشتروا هذه الأسينات وجدوا صعوبة في القيام بعمليات شراء على نحو مرض، فاستخدموها أي الأسينات كعملة، ولأن الدولة كانت قد أصدرت كثيراً من هذه الأسينات فقد استمر التضخم المالي، وفقدت الأسينات قيمتها إلا في دفع الضرائب حيث كانت الخزانة مرغمة على قبولها بقيمتها المدونة عليها، وبالتالي وجدت الخزانة نفسها مرة أخرى تعاني عجزاً ماليا يتزايد عاما بعد عام·
وبعد أن اتخذت الجمعية الوطنية هذه القرارات الخطيرة التي لا رجعة فيها، في 31 فبراير سنة 0971 كانت كأنها قد اجتازت نهر الربيكون(ü) Rubicon أوقفت الأديرة، وسمحت بصرف معاشات تقاعد للرهبان المطرودين(24) أما الراهبات فقد تركن وشأنهن نظراً لقيامهن بخدمات قيمة في مجالي التعليم والإحسان· وفي 21 يوليو تم إعلان "الدستور المدني للإكليروس" الذي اعتبر القسس موظفين في الدولة يتقاضون منها رواتب، والذي اعتبر الكاثوليكية هي الدين الرسمي للدولة، أما بالنسبة للبروتستانت واليهود فلهم أن يتعبدوا بحرية على وفق عقائدهم في أماكن عبادتهم الخاصة لكن لا تقدم لهم الحكومة دعما· وتقوم الجمعيات المنتخبة في الدوائر (المحافظات) باختيار الأساقفة الكاثوليك، على أن يعفى من التصويت في هذه الحالة غير الكاثوليك أي البروتستانت واليهود واللاأدريين agnostic (34)· وكان على كل القسس أن يتعهدوا بالامتثال الكامل للدستور الجديد كشرط لتسلّمهم رواتبهم·وقد رفض 031 أسقفا في فرنسا من بين 431 أن يقسموا يمين الولاء كما رفض 000·64 قس من بين 000·07 من قسس الأبرشيات أداء هذا القسم أيضا(44) واتخذت الغالبية العظمى من السكان جانب أولئك الإكليروس الرافضين تقديم قسم الولاء للدستور الجديد وقاطعوا الطقوس الدينية التي يقوم عليها رجال الدين الذين أدوا القسم· لقد أصبح هذا الصراع المتنامي بين الكنيسة المحافظة التي يؤيدها الشعب والجمعيات اللاأدرية السائدة التي تؤيدها الشرائح العليا من الطبقة الوسطى- عاملا جوهريا في إضعاف الثورة· وبسبب عدم شعبية هذا الإجراء ظل الملك الفرنسي طويلا يرفض توقيع الدستور الجديد·
وكان لآخرين أسبابهم أيضا لرفضه، فقد قاد روبيسبير Robespierre أقلية قوية للاعتراض على قصر حق الانتخاب على الملاك باعتبار أن ذلك انتهاك لإعلان حقوق الإنسان، وباعتباره أيضا إهانة مثيرة لبرولتياريا باريس التي سبق لها أن أنقذت الجمعية الوطنية مرارا من القوات المسلحة الملكية·
واتفق الفلاحون وأهل المدن في استيائهم من التخلي عن الإجراءات والقوانين الحكومية التي كانت على نحو ما تحمي المنتجين والمستهلكين من (ضراوة) السوق الحرة التي يتلاعب فيها الموزعون·
ومع هذا فقد شعرت الجمعية وكان لها بعض الحق في هذا· أن الدستور كان وثيقة مهمة تعطي للثورة المنتصرة شكلا قانونيا محددا· واعتبر مندوبو الطبقة الوسطى الذين لهم السيادة الآن أن العوام- وكانت غالبيتهم أميين ليسوا مؤهلين للمشاركة بنسبة أعدادهم في قرارات الحكومة ومداولاتها· وبالإضافة لهذا- وقد هرب النبلاء الآن - ألم يحن الآن دور البورجوازية في توجيه الدولة معتمدة بشكل متزايد على كبار السن الحكماء المجربين، وعلى اقتصاد متقدم فعال ؟ لذا فإن الجمعية أعلنت فرنسا ملكية دستورية بلا اعتبار لتردد الملك، وفي 5 يونيه سنة 0971 دعت المحافظات(الدوائر) الثلاث والثمانين لأن ترسل كل محافظة (دائرة) حرسها الوطني الفدرالي لينضم لشعب باريس وحكومة فرنسا في ساحة دي مارس (شامب دي - مارس Champ de Mars) للاحتفال بإنجاز الثورة بمناسبة مرور عام على استيلاء الثوار على الباستيل· وفي أثناء انتشار نبأ هذه الدعوة وما صاحبها من حماس دخل ثلاثون أجنبيا على رأسهم الهولندي الثري المعروف في التاريخ "بِأنا شارزيس كلوتسAnacharsis Cloots "(ü) الجمعية في 91 يونية وطلبوا أن يحوزوا شرف المواطنة الفرنسية وطلبوا حق التقدم "لعيد" الفدرالية باعتبارهم "سفارة" تمثل الجنس البشري"· وصدرت الأوامر بتنفيذ طلبهم·
لكن ساحة مارس التَّلِّية الآنف ذكرها كانت في حاجة إلى تسوية لتكون صالحة لهذه المناسبة إذ كان يجب تسوية مساحة تبلغ 3000- 1000 قدم وإعداد شرفات بها لتستوعب 000·003 رجل وامرأة وطفل، وكان لا بد من الارتفاع بالرابية الوسطى ليكون مذبحاً يعتليه الملك والأمراء والأساقفة وأعضاء الجمعية وأصحاب الحق في الوقوف هذا الموقف لأداء يمين الولاء للأمة التي تولد ميلادا شرعيا جديدا الآن· وخصص لإعداد الساحة على هذا النحو خمسة عشر يوما فقط· من الآن يستطيع أن ينافس الصفحات الأربع عشرة(54) التي بين فيها كارليل Carlyle كيف أن أهل باريس رجالا ونساء، شيبا وشبانا قد أقبلوا جميعا حاملين معاولهم ومجارفهم ودافعين أمامهم عربات الواحدة منها ذات عجلة واحدة لنقل الركام، وراحوا يغنون"ستسير الأمور على ما يرام" وسووا الأرض الواسعة وشيدوا الشرفات ومذبح قسم الولاء للوطن Autel de la Patrie من منا اليوم يجسر اليوم أن يكتب بمثل هذه الجرأة نافخا في أبواق البلاغة معلنا هذا الانجذاب وذلك الفرح ذي الطابع التنبئي خاصة إذا علمنا أن نصف مخطوطاتنا قد أحرقتها خادمة متعجلة، وكان علينا أن نجمع ما تبعثر من جواهرنا مرة أخرى لنعيد ترتيبها وصقلها؟ أي نار كان يجب كبتها في هذا الاسكتلندي القاسي لإحياء مثل هذه المحرقة (الهولوكوست)!·
وعلى هذا فإنه طوال الأسبوع السابق على هذا العيد الديني Holyday راح جنود من مختلف أنحاء فرنسا يتجهون إلى باريس وراح الحرس الوطني الباريسي في بعض الأحيان يقطع من باريس أميالاً كثيرة للقائهم ومرافقتهم· وفي 41 يوليو سنة 0971 دخلوا ساحة دي مارس الآنف ذكرها في موكب مهيب؛ خمسون ألفا من الأقوياء(64) أعلامهم ترفرف وفرقهم الموسيقية تعزف وحناجرهم تدوي بالأغاني القوية، وثلاثمائة ألف من الباريسيين المثيرين للخيال يصاحبونهم· ورتل الأسقف تاليران بيريجور Talleyrand pe`rigord ولم يكن قد طرد من رحمة الكنيسة بعد القداس، واعتلى مئتان من الأساقفة والقسس المذبح وأقسموا اليمين، وتعهد الملك بطاعة القوانين الجديدة بكل ما وسعه من جهد وصاحت الجموع "عاش الملك" وعندما أطلق المدفع طلقات التحية رفع آلاف الباريسيين ممن لم يتمكنوا من الحضور- أيديهم في اتجاه ساحة دي مارس Champ de Mars وأقسموا يمين الولاء· وجرت في كل مدينة فرنسية تقريبا مهرجانات مشابهة وشارك الجميع في تناول النبيذ والطعام وتعانق القسس الكاثوليك والبروتستانت كما لو كانوا مسيحيين على مذهب واحد· كيف يمكن لأي فرنسي أن يتشكك في أن عصرا جديداً مجيدا قد بزغ فجره؟



صفحة رقم : 14546