قصة الحضارة -> عصر نابليون -> الثورة الفرنسية -> الحياة في ظل الثورة -> الطبقات الجديدة

الفصل السادس


الحَياة في ظلّ الثورة


1798- 1799


1- الطبقات الجديدة


هنا نوقف الزمن (نتوقف عن سرد الوقائع التاريخية المتتابعة سراعاً) لننظر إلى شعب يعاني من كثافة التجارب التاريخية التي مرت به· فالست والعشرون سنة الكائنة بين سقوط الباستيل، حتى تنازل نابليون نهائيا (9871 - 5181) كانت حافلة بالأحداث التي لا تنسى، مثلها في ذلك مثل العشرين سنة الكائنة بين عبور قيصر للربيكون Rubicon ووصول أغسطس Augustus للسلطة (94-92 ق·م)· لقد كانت هذه الفترة التي مر بها الشعب الفرنسي حافلة بالأحداث الخصبة فإنها أحداث تكفي لتشغل قرونا قد تشتمل على وقائع أقل تشنجا وتحولا· ومع ذلك فقد واصلت الحضارة مسيرتها رغم العقبات، ففي ظل حكومات مرتعشة غير ثابتة الأيدى ظلت المؤسسات وزاد عددها ومجدت العبقرية وتواصلت عناصر الحضارة وفضائلها: إنتاج الطعام والبضائع وتوزيعهما، والعمل على الوصول إلى المعرفة ونقلها، ورعاية المواهب والشخصية، وتبادل التأثير والتأثر، وتلطيف حدة الكدح من أجل الحياة، والنضال من أجل الارتقاء بالفنون والآداب والأعمال الخيرية والألعاب الرياضية والأغاني، وإحداث تحولات في الخيال والعقائد والآمال· حقيقة ألم يكن ذلك هو جوهر التاريخ واستمراره، إذا قورن بهياج الحكومات السطحي وفوران الأبطال؟! فهذه الظواهر الأخيرة إن هي إلاّ عرضية سريعة الزوال، لا تمثل جوهر الحلم ·
1slash1- الفلاحون


كان كثيرون منهم في سنة 9871 لا يزالون إما عمال يومية (عمال مياومة يتلقى الواحد منهم أجرا عن عمل أداه في أثناء اليوم) أو يعملون في الأرض لقاء المشاركة في المحصول(نظام المزارعة)، وكانوا يعملون في أراضٍ يمتلكها الآخرون، لكن ما أن حل عام 3971 إلا وكان الفلاحون يمتلكون نصف الأراضي الزراعية في فرنسا، إذ كان معظمهم قد اشترى أكراتهم (فدادينهم Acres ) بأسعار خفضت للمساومة bargain price من ممتلكات الكنيسة التي صادرتها الثورة· وتحرر معظم الفلاحين إلا قليلا منهم من الرسوم الإقطاعية· فدوافع الملكية حولت العمل من كونه جهدا شاقا وكدحاً مرهقا إلى نوع من العبادة أو الحب الشديد، إذ أدى ذلك كل يوم إلى زيادة الفائض الذي يتحول إلى بناء المنازل وأماكن الاستجمام والكنائس والمدارس، وهذا يحدث فقط إذا تم التحايل على جامع الضرائب أو تضليله أو استرضائه· وكان يمكن دفع الضرائب بالأسينات assignats (العملة النقدية الورقية الحكومية) على وفق قيمتها الاسمية (المكتوبة عليها) بينما كانت المنتجات تباع بأسينات مضاعفة مائة مرة حتى يضمن البائع أن المبلغ الذي باع به أصبح يسا وي قيمة ما باعه· ولم يحدث أبدا أن كانت زراعة الأرض الفرنسية تتم في أي وقت مضى بمثل هذا الحماس وهذه الطريقة المثمرة، وكان تحرير أكبر الطبقات في مجتمع أصبح الآن بلا طبقات هو أهم نتائج الثورة وأكثر ديمومة وأشدها وضوحا· فهؤلاء الممولون الأشداء أصبحوا أقوى المدافعين عن الثورة لأنها أعطتهم الأرض التي سيأخذها منهم البوربون إن هم عادوا ملوكا لفرنسا· وللسبب نفسه أيد الفلاحون نابليون وقدموا طوال خمسة عشر عاماً نصف ابنائهم· وباعتبارهم (أي الفلاحين) ملاكا - وكان هذا مدعاة لفخرهم - فقد صنفوا أنفسهم سياسيا مع البورجوازية، وعملوا خلال القرن التاسع عشر كثقل محافظ يحفظ توازن الدولة التي كانت تعتريها نوبات تغيير مفاجىء ·
وليضمن المؤتمر الوطني (3971) المساواة في الحقوق، منع نظام البكورة في الميراث (حق الابن الأكبر في أن يرث الميراث كله) وأصدر أوامره بأن يوصى للأبناء بأسهم متساوية بمن في ذلك الأبناء غير الشرعيين(المولودين خارج نطاق الزوجية) إذا اعترف الأب ببنوتهم له· وكان لهذا التشريع نتائج مهمة على المستويين الأخلاقي (المعنوي) والاقتصادي: وقد عارضه معارضون لأن هذا النظام الجديد يفضي بالورثة إلى الفقر نتيجة تقسيم الميراث على التوالي بين أبناء كثيرين، لذا فقد رسخ الفرنسيون وسائل تحديد النسل القديمة· لقد ظل الفلاحون مزدهري الأحوال لكن عدد سكان فرنسا راح ينمو ببطء خلال القرن التاسع عشر إذ ارتفع من 82 مليون نفس سنة 0081 إلى 93 مليون نفس في سنة 4191، بينما ارتفع سكان ألمانيا في الفترة نفسها من 12 مليوناً إلى 76 مليوناً(1)· ونظراً لخصوبة الأرض ووفرة ثمرها تباطأ الفلاحون الفرنسيون في الانتقال والحركة إلى المدن والمصانع، لذا بقيت فرنسا دولة زراعية في الأساس، بينما تطورت إنجلترا وألمانيا صناعيا وتكنولوجيا، فأدى هذا لتفوقها في الحرب وسادت أوربا ·
1slash 2- البروليتاريا


ظل الفقر شديد الوطأة بين الفلاحين الذين لا يمتلكون أراضي، والمشتغلين في المناجم والعمال والحرفيين في المدن· لقد راح الرجال يحفرون الأرض لاستخراج المعادن اللازمة للصناعة والحرب، فقد كان الملح الصخري (نترات البوتاسيوم أو الصوديوم) لازما لصناعة البارود، وزاد استخدام الفحم ليحل محل الأخشاب كمولد للطاقة المحركة· وكانت المدن متألقة مفعمة بالحيوية نهارا مظلمة هامدة بالليل حتى سنة 3971 عندما أخذت الكومونات على عاتقها إضاءة شوارع باريس، وواصل الحرفيون العمل ليلا في محالهم المضاءة بالشموع وراح البائعون الجوالون ينادون على بضائعهم ليلا في مركز السوق المفتوح، وكان في الضواحي مصنع أو مصنعان ·
وفي سنة 1971 ألغيت روابط الطوائف المهنية Guilds وأعلنت الجمعية الوطنية أنه من الآن فصاعدا لكل فرد الحق في ممارسة العمل الذي يختاره والمهنة التي يرتضيها والفن أو التجارة التي يبغيها"(2)· ومنع قانون منع التكتلات Law of le Chapel (الصادر في سنة 1971) العمال من الانضمام إلى تكتلات اقتصادية، وظل هذا المنع ساريا حتى سنة 4881، وكانت الإضرابات ممنوعة لكنها حدثت لفترات متواصلة أحيانا(3)، وبشكل متقطع أحيانا أخرى· وناضل العمال حتى لا يأكل التضخم أجورهم، وعلى كل حال، وبشكل عام، استطاعوا الحفاظ على أجور لا يقلل ارتفاع الأسعار من جدواها(4)· وبعد سقوط روبيسبير أحكم أصحاب الأعمال قبضتهم وساءت أحوال البروليتاريا· وبحلول عام 5971 أصبح العوام من السانس كولوت طبقة فقيرة ومطحونة كما كان حالها قبل الثورة· وبحلول عام 9971 فقدت هذه الطبقة إيمانها بالثورة، وفي سنة 0081 رحبوا بدكتاتورية نابليون عاقدين عليها الآمال ·
1slash 3- البورجوازية


حققت البورجوازية نصراً من خلال الثورة لأنها كانت أغنى بالأموال والعقول من الأرستقراطية أو العوام Plebs · لقد اشتروا من الدولة من خلال صفقات معظمها رابح ممتلكات الكنيسة المصادرة، ولم تكن ثروة البورجوازية مرتبطة بالأرض التي لا يمكن نقلها (الممتلكات الثابتة) وإنما كان يمكنهم نقل ثرواتهم من مكان إلى مكان، وتشغيلها في أي مجال ولأي غرض، كما كان يمكنهم تداولها والانتقال بها من ظل قانون (تشريع) إلى ظل قوانين أخرى· وكان يمكن للبورجوازية أن يدفعوا للجنود والحكومات وللجماعات المشاركة في أي عصيان مسلح· وحصلت هذه الطبقة خبرة في إدارة الدولة فكان أفرادها يعلمون كيف يجمعون الضرائب وأثروا في خزانة الدولة من خلال ما أقرضوه لها، وكان أفراد البورجوازية أكثر تحصيلا للتعليم ذي المردود العملي، من النبلاء ورجال الدين، وكانوا أكثر كفاءة في حكم مجتمع، المال هو دورته الدموية، وكانوا يعتبرون الفقر عقاباً للأغبياء، وأن ثراءهم ما هو إلا مكافأة عادلة لعملهم وذكائهم، ولم يشاركوا في حكومة العامة من السانس كولوت، واعتبروا تدخل البروليتاريا في أمور الحكم شيئا لا يطاق ويؤدي إلى اضطراب الحكومة· وانتهوا إلى نتيجة مؤداها أنه عندما يهمد صوت الثورة وعنفها، سيصبح البورجوازية هم سادة الدولة·
وكانت البورجوازية في فرنسا بورجوازية تجارية أكثر منها صناعية، ولم تشهد فرنسا تحول بعض مزارعها إلى مراع كما كان يحدث وقتها في إنجلترا، مما أدى إلى نزوح الفلاحين الإنجليز من حقولهم إلى المدن مكونين طاقة عاملة رخيصة في المصانع، كما أن الحصار الذي فرضته بريطانيا على فرنسا منعها من تصدير منتجاتها، ذلك التصدير الذي يؤازر التوسع الصناعي· ومن هنا فإن نظم الصناعة كانت تتطور في فرنسا بشكل أبطأ مما عليه الحال في إنجلترا· لقد كان هناك بعض التنظيمات الرأسمالية الكبيرة في باريس وليون وليل Lille وتولوز Toulouse ······، لكن الصناعة الفرنسية في معظمها كانت لا تزال في المرحلة "الحرفية" وكانت لا تزال في محلات (دكاكين)، بل إن الرأسماليين (الفرنسيين) قد أوكلوا كثيرا من الأعمال اليدوية على أسر تعمل في مساكنها الريفية أو غيرها· وباستثناء الفورات الفاشستية زمن الحرب، وتعاطف اليعاقبة شيئا ما مع الاشتراكية، فإن الحكومة الثورية قد قبلت نظرية الفيزيوقراط في الاقتصاد الحر باعتبار ذلك نظاما اقتصاديا يحفز على العمل ويزيد الإنتاج· وخففت معاهدات السلام مع بروسيا في سنة 5971 ومع النمسا في سنة 7971، من العوائق الاقتصادية، ودخلت الرأسمالية الفرنسية كالرأسمالية الإنجليزية والأمريكيـة، القـرن التاسـع عشـر بتبريكـات الحكومـة التـي تمـارس عليها حدا أدنى من الحكم·
1 slash 4- الأرستقراطية


فقدت الارستقراطية سلطانها كله في تو جيه الاقتصاد والحكم· فقد كان معظم الأرستقراطيين ما زالوا خارج فرنسا (مهاجرين منها) يعيشون عيشة مذلة، فقد صودرت أملاكهم في فرنسا وتوقف دخلهم· وكان منهم النبلاء الذين بقي بعضهم في فرنسا، وعاد بعضهم الآخر من مهجره، وقد قصت المقصلة رقاب كثيرين منهم وانضم بعضهم للثورة، وظل الباقون حتى سنة 4971 مختبئين بشكل غامض وكانت السلطات تزعجهم بتكرار الإغارة على عقاراتهم· وفي ظل حكومة الإدارة قلت المعوقات فعاد كثيرون من هؤلاء المهاجرين واستعاد بعضهم جزءاً من ممتلكاته، وفي سنة 7971 راحت أصوات كثيرة تهمس بأن الملكية وحدها تدعمها (أو تراجعها) أرستقراطية نشيطة هي وحدها التي يمكن أن تعيد النظام والأمان للحياة الفرنسية، واتفق نابليون معهم لكن على وفق طريقته وتمشيا مع مقتضيات زمنه ·
1slash 5- الديـــن


عرف الدين في فرنسا كيف يشق طريقه دون عونٍ من الدولة، بعد أن اقتربت الثورة من التخلص منه· وتحرر البروتستانت الذين كانوا يشكلون 5% من السكان من المعوقات التي اعترضت سبيل عقيدتهم، فحقهم في العبادة الذي أقرهم على قليل منه لويس السادس عشر في سنة 7871 اصبح الآن حقا كاملا على وفق دستور سنة 1971، وامتدت الحقوق المدنية إلى يهود فرنسا ليصبحوا ذوي حقو ق قانونية مساوية للمواطنين الآخرين، على وفق مرسوم 82 سبتمبر سنة 1971 ·
أما الإكليروس الكاثوليك الذين كانوا فيما مضى من الطبقة الأولى فقد أصبحوا الآن يعانون من عنف حكومة فولتيرية مناهضة للإكليروس· وفقدت الطبقات العليا معتقداتها (إيمانها) بالكنيسة، وحصلت الطبقة الوسطى على معظم أراضي الكنيسة وفي سنة 3971 بيعت ممتلكات الكنيسة لأعدائها، تلك الممتلكات التي قدرت قيمتها بمليونين ونصف مليون ليفر(5) Livres وفي إيطاليا جردت الباباوية من ولاياتها وعوائدها، وأصبح بيوس السادس Pius VI أسيرا، وفر آلاف الفرنسيين إلى البلاد الأخرى، وعاش كثيرون منهم على إحسان البروتستانت(6) وأغلقت مئات الكنائس أو صودرت أموالها وتحفها، وصمتت أجراس الكنائس أو راحت تدق على ا ستحياء· لقد كسب فولتير وديدرو Diderot ، وهليفيتيوس Helvétius ودلباش d`lldbach معركتهم مع الكنيسة فيما يظهر ·
لكن هذا النصر لم يكن واضحا· حقيقة لقد فقدت الكنيسة ثرواتها وسلطانها السياسي لكن جذورها الحية ظلت متمثلة في الولاء للإكليروس وفي حاجات الناس وآما لهم، فكثيرون من الرجال في المدن الكبيرة ممن كانوا قد شردوا بعيدا عن معتقداتهم أصبحوا جميعا تقريبا من رواد الكنائس في عيدي الكريسماس والفصح، وفـي ذروة أحداث الثورة (مايو 3971) كان أهل باريس (على وفق رؤية شاهد عيان) رجالا ونساء وأطفالا يخرون على ركبهم توقيراً واحتراما عندما يمر القس حاملا خبز القربان المقدس في شوارع باريس(7) بل وحتى المتشككون لا بد أنهم شعروا بالتأثير "المغناطيسي" للشعائر الدينية، وما توحيه من جمال لا يذوي، ولابد أنهم تأملوا ما كتبه بسكال في الرهان Wager " من أنه من الحكمة أن يكون المرء مؤمناً، ففي خاتمة المطاف لن يفقد المؤمن شيئا، بينما يفقد غير المؤمن كل شىء إن ثبت خطؤه (أو بتعبير آخر: المصدق لن يفقد شيئا والمكذب سيفقد كل شىء إن ثبت خطؤه)·
وفي ظل حكومة الإدارة انقسمت الأمة الفرنسية إلى قسمين: شعب عاد ببطء إلى العقيدة التقليديه، وحكومة عمدت إلى تأسيس مجتمع علماني خالص اعتمادا على القانون والتعليم، ففي 8 أكتوبر 8971 أرسلت حكومة الإدارة الجديدة (بعد طرد الأعضاء غير المرغوب فيهم منها) لكل المعلمين في مدارس الدوائر (المحافظات) التعليمات التالية :
"يجب أن تحذفوا من مقرراتكم الدراسية كل مايتعلق بعقائد أي دين وشعائره (أو طقوسه) من أي مذهب كان· إن الدستور يكفل حرية العبادة، لكن تدريسها ليس جزءاً من المقررات الدراسية العامة (الحكومية Public ) ولا يمكن أن تكون أبدا مجالاً للتدريس· لقد قام الدستور على قاعدة الأخلاق العامة (غير المر تبطة بدين) وهي أخلاق (مبادىء أخلاقية) صالحة لكل زمان وكل مكان وكل الأديان فهذا القانون (الأخلاقي) محفور في ألواح الأسرة البشرية - إنها - أي هذه الأخلاق الصالحة لكل زمان ومكان ودين - هي ما يجب أن تكون روح دروسكم وهدف وصاياكم والرابط بين مجالات الموضوعات التي تدرسونها كما أنها الرباط الذي يربط بين أفراد المجتمع"(8)·
وهنا نجد هذا المبدأ الذي جرى النص عليه بوضوح كان واحدا من أكثر مشروعات الثورة صعوبة، فتلك قضية من أصعب قضايا عصرنا: أن تبني نظاما اجتماعيا اعتمادا على نظام أخلاقي قائم على عقيدة دينية· وقد اعتبر نابليون ذلك اقتراحا غير عملي، وكان على أمريكا أن تلتصق به حتى عصرنا هذا·
1slash 6- التعليم


تولت الدولة الإشراف على التعليم بدلاً من الكنيسة، وعمدت الدولة إلى أن تجعل من هذه المدارس مراكز تربوية لتنمية الذكاء وتعميق الأخلاق، وترسيخ الوطنية· وفي 12 أبريل سنة 2971 قدم كوندرسيه Condorcet مسئول التعليم العام للجمعية التشريعية تقريرا تاريخيا داعيا إلى إعادة تنظيم التعليم حتى يحدث "التقدّم الدائم المستمر في مجال التنوير مما قد يفتح موارد لا نهاية لها لسد احتياجاتنا ومداواة عللنا ولتحقيق السعادة للفرد والرخاء للجميع"(9)· وقد عوّقت الحرب تحقيق هذا التصور المثالي، لكن في 4 مايو سنة 3971 جدد كوندرسيه عرضه لكن على أساس أضيق مما سبق· لقد قال: "البلاد (فرنسا) لها حق تربية أبنائها وتنشئتهم، ولا يمكن أن نعهد بهذه المهمة إلى طموح الأسرة، ولا إلى أفراد مفسدين··· فالتعليم لا بد أن يكون مباحاً للفرنسيين كلهم وعلى قدم المساواة····· إننا نعول عليه كثيرا ليكون متمشيا مع طبيعة حكومتنا ومبادىء جمهوريتنا الراقية"(01) وهذه الصياغة كما هو واضح تحل عقيدة محل أخرى - الوطني بدلاً من الكاثوليكي -، وتبشر "بالوطنية" كدين رسمي· وفي 82 أكتوبر سنة 3971 أصدر المؤتمر الوطني مرسوما بمنع تعيين أي إكليريكي مدرساً في مدارس الحكومة، وفي 91 ديسمبر صدر بيان بجعل التعليم الابتدائي مجانيا وإلزاميا للأولاد كلهم· أما البنات فكان من المتوقع أن تعلمهن أمهاتهن أو يتلقون التعليم في الأديرة أو على يد معلمين خصوصيين·
وكان من الضروري إرجاء تنظيم المدارس الثانوية إلى ما بعد الحرب، وعلى هذا ففي 22 فبراير سنة 4971 بدأ المؤتمر الوطني في تأسيس "المدارس المركزية Ecoles Centrals " التي أصبحت هي مدارس المحافظات أو الدوائر Lycees الثانوية· وتم افتتاح مدارس خصوصية Special للتعدين والأشغال العامة والفلك والموسيقا والفنون والحرف، وفي 82 سبتمبر سنة 4971 بدأت مدرسة البوليتقنية E`cole Polytechnique التدريس في مجالها المميز· وتم إغلاق الأكاديمية الفرنسية في 8 أغسطس سنة 3971 باعتبارها مركزا للمعارضين القدماء، لكن في 52 أكتوبر سنة 5971 دشن المؤتمر الوطني أكاديمية أخرى هي المعهد القومي الفرنسي الذي ضم أكاديميين مختلفين لتشجيع كل العلوم والفنون، وتجمع في هذا المعهد العلماء والباحثون الذين أخذوا على عاتقهم إنجاز التراث الفكري التنويري، وهم الذين أعطوا حملة نابليون على مصر أهمية دائمة (بفضل إنجازاتهم العلمية)·
1slash 7- السلطة الرابعة


الصحفيون والصحافة: قد يكون لها أهمية تفوق المدارس من حيث تأثيرها في تشكيل عقل فرنسا وحالتها النفسية في هذه السنوات المفعمة هياجاً· فأهل باريس وعلى نحو أقل أهــل فرنســا عامة كانوا يلتهمون ورق الصحف التهاما بشغف شديد (المقصود يقرأونه برغبة عارمة) كل يــوم· لقد ازدهرت صحف الشباب (صحف الهجاء أو الفضائح) التي راحت تجرح السياسيين والعلماء وتقلل من أقدارهم أمام العامة· وقد التزمت الثورة في (إعلان حقوق الإنسان) بالمحافظة على حرية الصحافة، وقد جرى تنفيذ ذلك خلال فترة حكم الجمعية الوطنية فالتأسيسية (9871 - 1971) لكن نتيجة اشتداد حدة النزاع بين الفرقاء عمد كل جانب إلى التقليل مــن عــدد منشــورات أعدائه، لكن الواقع أن حرية الصحافة قد ماتت بإعدام الملك (12 يناير 3971)، وفي 81 مارس أصدر المؤتمر الوطني قرارا بإعدام كل "من يقترح قوانين بتقسيم الأراضي وتوزيعهــا أو أية قوانين تؤدي إلى تدميــر الملكية الخاصة أو التجارية أو الصناعية" وفي 92 مارس حــث قتلة الملك والمؤيدون لقتله المؤتمر الوطني على إصدار قرار بإعدام كل من "يدان بطبع أو كتابة ما يحث على··· إعادة الملكية أو إعادة أي سلطات أخرى في عودتها ضرر بسيادة الشعب"(11)· ودافع روبيسبير طويلا عن حرية الصحافة، لكنه بعد أن أرسل إلى المقصلة كلا من هيبير Hébert ودانتون وديمولين Desuoulins وضع بإعدامهم حدا لظهور الصحف التي كانوا يدعمونها· وخلال فترة حكم الإرهاب اختفت حرية التعبير حتى في المؤتمر الوطني، وأعادت حكومة الإدارة حرية الصحافة في سنة 6971 لكنها ألغتها بعد ذلك بعام واحد بعد انقلاب 81 فروكتيدور ونفت محرري 24 جريدة(21)· ولم يدمر نابليون حرية التعبير وحرية الصحافة لأنه عندما وصل إلى السلطة كانت مدمرة بالفعل(31)·


صفحة رقم : 14567