قصة الحضارة -> عصر نابليون -> الثورة الفرنسية -> الحياة في ظل الثورة -> الأخلاق الجديدة

2- الأخلاق الجديدة


2slash1 الأخلاق والقانون


أما وقد تم استبعاد الدين أساساً للأخلاق (أي حب الرب المراقب العليم المكافىء المعاقب والخوف منه، وطاعة شريعته والتزام أو امره واجتناب نواهيه)، فإن الأرواح المتحررة في فرنسا وجدت نفسها بلا دفاع (إلا من خلال الأصداء الأخلاقية للعقائد التي هجرتها) ضد غرائزها الأقدم والأقوى والأشد فردية التي غرست وتأصلت بفعل قرون بدائية ساد فيها الجوع والجشع والصراع وانعدم فيها الأمان· لقد راح الفرنسيون يبحثون عن فكرة جديدة لتكون مرساة في بحر هائج، أفراده متمردون، لا يخشون إلا القوة (لا يذعنون إلا إذا كان هناك ما يخيفهم)، أما الأخلاق المسيحية فتركوها لزوجاتهم وبناتهم· لقد انعقدت آمالهم على أن تكون هذه الفكرة الجديدة (التي هي عوض عن القيم الدينية) في حقوق المواطنة وواجباتها Civisme (Citizenship) بمعنى قبول الواجبات التي تفرضها هذه المواطنة، وتحصيل المزايا الناتجة عن الانتماء إلى مجتمع منظم يحظى بالحماية، وفي مقابل هذه الحماية وكثير من الخدمات العامة (التي تقدم للجميع) لا بد أن يراعى الفرد في كل اختيار معنوي (أخلاقي) يقدم عليه مصالح المجتمع باعتبارها القانون الأعلى Salus Populi Suprema Lex · لقد كان ترسيخ " أخلاق طبيعية" محاولة نبيلة وقد اكتشف النواب الفلاسفة ميرابو Mirabeau وكوندرسيه Condorcet وفيرجنيو Vergniaud ورولان Roland وسان جوست St-Just وروبيسبير من خلال مراجعاتهم للقرون المسيحية الماضية أن التاريخ الكلاسي أو المرويات التاريخية للنماذج التي يبحثون عنها: فليونيداس Leonidas وإيبا مينونداس Epaminondas وأرستيدس Aristides والبروتسيون Brutuses وكاتوس Catos وسكيبيوس Scipios كل أولئك كانت "الوطنية" بالنسبة لهم إلزاما حاكما حتى إن الرجل قد يقتل استقامة منه وتمسكا بالخلق أبناءه أو والديه إذا اعتقد أن هذا ضروري لصالح الدولة ·
لقد أصابت المجموعة الأولى من الثوار نجاحا معقولا مع هذه الأخلاقيات الجديدة· والمرحلة الثانية بدأت من 01 أغسطس سنة 2971: جمهور باريس الذي خلع لويس السادس عشر وزعم أن السلطة التي قد قامت بذلك مغفور لها (لها عذرها)· وفي ظل الحكم القديم كانت بعض فضائل الأرستقراطية وبعض لمسات الإنسانيين التي بشر بها الفلاسفة والقديسون قد لطفت من ميل الناس الطبيعي للنهب والسلب وهجوم بعضهم على بعضهم الآخر، لكن - الآن - وجدنا أنه قد تبع هذا في موكب الموت، مذابح سبتمبر وإعدم الملك والملكة وانتشار حكم الإرهاب والمقصلة مما وصفته مدام رولان (التي كانت إحدى ضحايا الإرهاب): "ساحة إعدام موسعة مليئة بالأشلاء مثل الجلجثه"(41) وأصبح زعماء الثورة متربحين مستغلين ظروف الحرب وفرضوا على المناطق "المحررة" أن يدفعوا ثمنا لحقوق الإنسان، وقيل للجيوش الفرنسية أن تعيش في المناطق المفتوحة، وأصبحت كنوز الفن في المناطق المحررة أو المهزومة ملكا لفرنسا، وفي هذه الأثناء تآمر أعضاء المجلسين وضباط الجيش مع الموردين لخداع الحكومة والجنود· وفي ظل الاقتصاد الحر Laissez Faire economy عمد المنتجون والموزعون والمستهلكون إلى الخداع وراح كل طرف يخدع ا لطرف الآخر أو يعمد إلى التهرب من سقف الأسعار المسموح به (الحد الأقصى لسعر البضاعة المطروحة) أو الأجور، أو ممارسة الأعمال الأخرى المشابهة والتي تتسم بعدم الانضباط، وكل هذا بطبيعة الحال كان موجودا لآلاف السنين قبل الثورة، لكن في محاولة لضبط كل هذا بدت القيم الأخلاقية الجديدة- أخلاق المواطنة· أنها ليست بقوة تأثير الخوف من الآلهة· أو بتعبير آخر بدت فكرة التركيز على واجبات المواطن وحقوقه أنها ليست بنفس قوة "الخوف من الآلهة"·
لقد زادت الثورة من عدم الأمان في الحياة، ومن عدم الاستقرار في القوانين، فكان أن عبر الناس عن توترهم الشديد بارتكاب الجرائم، كما راحوا يبحثون عن وسيلة يلهون بها أنفسهم فوجدوا طريق القمار، واستمرت المبارزات لكنها قلت عما كانت عليه قبل الثورة· وقد منع القمار بمراسيم صدرت سنة 1971 و2971 ومع هذا فقد تضاعفت بيوت القمار السرية Maisons de Jeu ففي سنة 4971 كان هناك ثلاثة آلاف محل قمار في باريس(51)· وخلال فترة بحبوحة الطبقة العليا في سنوات حكومة الإدارة راح الرجال يراهنون بمبالغ ضخمة فخربت بيوت أسر كثيرة مع دوران العجلة (عجلة القمار) لكن في سنة 6971 دخلت حكومة الإدارة مجال القمار بإعادة "اللوترية الوطنية" أو "اليانصيب الوطني أي على مستوى الدولة"· وفي التماس طالب حي (قسم) التوليري التابع لكومون باريس المؤتمر الوطني بإصدار قانون بمنع كل بيوت القمار والمواخير كلها (بيوت الدعارة) وساقت لذلك برهانا هو أنه "بلا أخلاق لا يمكن أن يكون هناك قانون أو نظام، وبدون أمان شخصي لن تكون حرية"(61)·
لقد أقامت الحكومات الثورية نظاما قانونيا جديدا لشعب مستثار ومضطرب ، وتركت له الحبل على غاربه ، فانفلت من القيم الأخلاقية والضوابط القانونية كلها بعد انهيار المعتقد الديني وموت الملك· وكان فولتير في وقت سابق قد دعا إلى إعادة النظر في القوانين الفرنسية بشكل عام وجمع قوانين الولايات الفرنسية كلها، وعددها _ أي القوانين 063 مجموعة وضمها معا في خلاصة واحدة محكمة لتطبيقها على فرنسا كلها· ولم يستجب أحد لهذه الدعوة فقد كانت الثورة على أشدها، وكان لا بد لهذه الدعوة أن تنتظر نابليون لتحقيقها· وفي سنة 0871 قدمت أكاديمية شالون سير مارن Chalons sur Marne جائزة لأحسن مقال عن "أحسن طريقة لتخفيف حدة قانون العقوبات الفرنسي دون الإضرار بالأمن العام"(71)·
وا ستجاب لويس السادس عشر بمنع التعذيب (0871) وأعلن عن عزمه بمراجعة القوانين الجنائية الفرنسية كلها وصياغتها في مدونة قانونية مقومة، وأكثر من هذا "سوف نبحث الوسائل كلها للتخفيف من حدة العقاب دون الإخلال بالنظام" وعارض القانونيّون المحافظون الذين كانوا وقتها يسيطرو ن على "برلمانات Parlements " باريس ومتيز Metz وبيسانسون Besancson الخطة، واضطر الملك للتخلي عنها اضطرارا ·
وعرضت المذكرات والعرائض التي تم تقديمها لمجلس طبقات الأمة في سنة 9871 عدة إصلاحات قانونية: المحاكمة لا بد أن تكون علنية· ضرورة أن يكون للمتهم محا م أو مجموعة تقدم له المشورة القانونية· إلغاء المراسيم الملكية بالسجن دون محاكمة Lettres de Cachet · لابدّ من ترسيخ قواعد المحاكمة أمام محلفين· وفي يونيو أعلن الملك إبطال المراسيم الملكية بالسجن بلا محاكمة، وسرعان ما تبنت الجمعية التأسيسية هذه المطالب الإصلاحية وصاغتها قوانين، وأعيد نظام المحاكمة أمام محلفين الذي عرفته فرنسا في العصور الوسطى مرة أخرى· لقد أصبح المشرعون الآن محصنين ضد التأثيرات الإكليريكية (المسيحية) بما فيه الكفاية، وواعين لاحتياجات الأعمال (التجارية) ليعلنوا في 3 أكتوبر سنة 9871 (بعد قرون من وجود هذا الأمر على أرض الواقع< أن تحصيل فائدة ليس جريمة؟ Charging of interest was not a crime وصدر قانونان في سنة 4971 لتحرير العبيد في فرنسا ومستعمراتها، وإعطاء الزنوج حقوق المواطنين الفرنسيين· وعلى أساس أن "الدولة الحرَّة بمعنى الكلمة لا يمكن ان تسمح بأي نتوءات مفتعلة في صدرها" ومنعت قوانين مختلفة كل >الأخويات< (المقصود الجميعات أو التكتلات المكونة من جماعة ذات اتجاهات معينة تربط أعضاءها) والجمعيات العلمية والأدبية والتنظيمات الدينية وروابط الأشغال business (الجمعيات الحرفية أو المهنية)· وكان أمراً مستغرباً تماما أن نوادي اليعاقبة تم استثناؤها من هذا الحظر بينما حُظرت اتحادات العمال· والواقع أن الثورة سرعان ما أحلت "الدولة كلية السلطة أو الدولة الشمولية Omnipotent State" محل الملكية·
والحقيقة أن تباين التشريعات القديمة، وإقرار قوانين جديدة وازدياد تعقد علاقات الأعمال كل هذا أدى إلى زيادة أعداد القانونيين زيادة كبيرة، فهم _ الآن قد حلوا محل الإكليروس كطبقة أولى· ومنذ حل "البرلمانات Parlements " لم يكونوا تابعين لتنظيم رسمي، لكن معرفتهم بكل ثغرات القانون، وبالإجراءات القانونية بكل حيلها، ووسائل التسويف فيها، قد أعطتهم قوة وجدت الدولة نفسها صعوبة في السيطرة عليها (مع أن الحكومة نفسها كانت تضم مجموعة من القانونيين) وبدأ المواطنون يحتجون على التسويف في ظل القانون (التسويف القانوني) وعلى حيل المحامين، وتكاليف التقاضي المرتفعة مما جعل - ويا للسخط - المواطنين حقيقة غير متساوين أمام المحاكم(81)· وحاولت الجمعيات المتتالية خلال اختزال إجراءات التقاضي، والتقليل من حدة سلطان المحامين، وفي إجراء عنيف صدرت مراسيم بإبطال وظيفة الموثق العام (كاتب العدل) في 32 سبتمبر سنة 3971· وتم إلغاء مدارس القانون (51 سبتمبر 3971) وصدر مرسوم في 42 أكتوبر 3971 بإلغاء وظيفة الوكيل القانوني attorney at Law وإنما يقوم المتقاضون (المتخاصمون) بتفويض مندوبين عنهم ليمثلوهم أمام المحاكم بلا مقابل Mandatories "(91) وهذه الإجراءات غالباً ما كان يتم الالتفاف حولها وظلت مجرد قوانين في الكتب حتى أعاد نابليون نظام المحامين أو الوكلاء القانونيين attorneys في 81 مارس سنة 0081·
وقد أحرزت الثورة تقدما في إصلاح القوانين الجنائية فأصبحت الإجراءات أقرب إلى فهم العامة، فقد انتهت لفترة سرية الاستجوابات، والأخذ بشهادة أشخاص لا تذكر أسماؤهم، ولم يعد السجن وسيلة للتعذيب، فقد سمح لكثيرين من المساجين بإحضار الكتب والأثاث، وأن يدفعوا لشراء وجبات لهم من خارج السجن، وسمح للمساجين الذين سجنوا للاشتباه فيهم ولم يدانوا بعد بالتزاور معا وممارسة الألعاب الرياضية(02) أو على الأقل ممارسة العشق، وقد سمعنا عن بعض الأمور الدافئة كالتي حدثت بين السجينة جوزفين بوهارنيه والسجين الجنرال هوش Hoche والمؤتمر الوطني الذي نفذ في عهده مئات من أحكام الإعدام، أعلن في دورته الأخيرة (62 أكتوبر سنة 5971) أن "أحكام الإعدام ستمنع في أنحاء الجمهورية كلها بمجرد إعلان السلام"·
وفي هذه الأثناء استطاعت الثورة أن تزعم أنها قد حسنت طريقة الإعدام Capital punishment وفي سنة 9871 اقترح الدكتور جوزيف إيجناس جليوتين Dr. Joseph Ignace Guillotin عضو مجلس طبقات الأمة إحلال الشّنّاق وحامل البلطة (منفذ حكم الإعدام باستخدام البلطه) بحيث تكون بلطته حادة النصل بحيث تفصل رأس المحكوم عليه بالإعدام عن جسده بسرعة فلا يتألم كثيراً قبل الموت· ولم تكن هذه الفكرة جديدة، فقد سبق استخدامها في إيطاليا وألمانيا منذ القرن الثالث عشر (12)· وبعد بعض التجارب التي أجراها الطبيب بسكينته (مشرطه) على جثث الموتى، تـم نصب المقصلة (52 ابريل 2971) في ميدان الرملة Place de Gréve (الآن ميدان دار البلدية) ثم توالى نصبها في كل مكان، وتوالى تنفيذ أحكام الإعدام بها· وظلت مشاهدة المقصلة وهي تهوي على رقاب الضحايا تجذب اهتمام الجماهير، وكان بعضهم يبدو سعيدا بمن فيهم النساء والأطفال(22)، ولما تكرر المشهد كثيرا أصبح أمرا عاديا مألوفا لا يجذب الجماهير، فقد ذكر الناس المعاصرون لهذه الأحداث أن "عربات نقل السجناء المحكوم عليهم بالإعدام بالمقصلة، كانت تمر وهم يعملون في محلاتهم، فلا تؤثر فيهم ولا يكلفون أنفسهم حتى رفع رؤوسهم لمشاهدتها(32)" فالرؤوس المطأطِئة تبقى أكثر من الرؤوس المرفوعة·
2slash2 الأخلاق الجنسية


بين عربات نقل المسجونين إلى المقصلة، وبين الخراب لم يتوقف العشق ولا توقفت الممارسات الجنسية· وكانت الثورة قد أهملت المستشفيات، لكن هناك وفي ميادين المعارك، وأحياء الفقراء كان الإحسان يخفف الألم والحزن، والصلاح يواجه الشر، والمشاعر الأبوية تفوق نزوع الأبناء إلى الاستقلال· وراح أبناء كثيرون يعجبون من عدم استطاعة آبائهم فهم طابعهم الثوري وطرائقهم الجديدة، وتخلى بعضهم بشدة عن الكوابح الأخلاقية القديمة وأصبحوا أبيقوريين غير مبالين(أي ميالين إلى المتع والملذات) فانتعش الاتصال الجنسي غير الشرعي وانتشرت الأمراض التناسلية، وتضاعف عدد اللقطاء، واستمر الانحراف·
والكونت دوناتين ألفونس فرانسوا دى ساد (0471 - 4181) سليل أسرة عريقة بروفنسية، وارتقى فأصبح حاكما عاما لمحافظتي (دائرتي) بريس Bresse وبوجي Bugey وبدا قاصداً للعيش كمدير من مديري المحافظات (الأقاليم غير العاصمة) لكنه كان مولعا مهتاجا بالخيالات والرغبات الجنسية وراح يبحث عن فلسفة ليبرر بها هذا الولع· وبعد علاقة جنسية غير شرعية مع أربع فتيات حكم عليه بالموت في إيكس إن بروفنس Aix en Provence (2771) لجرائم " دس السم وممارسة اللواط"(42)· لكنه هرب، وأعيد القبض عليه، فهرب مرة أخرى، وارتكب مزيدا من الأمور الشنيعة القبيحة، وفر إلى إيطاليا ثم عاد إلى فرنسا، وقبض عليه في باريس وسجن في فينسن Vincennes (8771-4871) وفي الباستيل وفي شارنتون Charenton (9871)، وأطلق سراحه سنة 0971 وأيد الثورة، وفي سنة 2971 أصبح سكرتيرا لحي (قسم) دي بك des Piques ·
وخلال فترة حكم الإرهاب قبض عليه بناء على افتراض زائف وهو أنه أحد المهاجرين (المعادين للثورة) العائدين، وتم إطلاق سراحه بعد عام، لكن في سنة 1081 في ظل حكم نابليون تعرض للسجن بسبب نشره لقصة بعنوان جوستين Justin (1971) وجوليت Julltte (2971)، فقد تعرضت هاتان الروايتان لتجربة جنسية سوية وشاذة، وكان المؤلف يفضل الشاذة واستغل مهارته الأدبية في الدفاع عن هذا الشذوذ (العلاقات الجنسية غير الطبيعية أو السوية)، ودلل على أن كل الرغبات الجنسية طبيعية لا شذوذ فيها ولا بد من ممارستها والضمير مرتاح حتى لو تم تحصيل اللذة الجنسية بإحداث الألم، وبهذا المعنى الأخير حقق شهرته فأصبح خالدا بكل معنى الكلمة، وقد قضى سنوات حياته الأخيرة في سجون مختلفة وكتب مسرحيات جيدة ومات في مصحة للأمراض العقلية في شارينتون Charenton وفي أثناء الثورة رحنا نسمع عن الشذوذ الجنسي بين طلبة المدارس(52)، وربما كان لنا أن نسلم بانتشاره في السجون، فالمومسات والعاهرات كان عددهن كبيراً خاصة بالقرب من القصر الملكي وحدائق التوليري وفي شارع سان هيلير St. Hilaire وشارع الساحات الصغيرة (بيتيت شامب Petits Champs ) ، ويمكن أن يوجدوا أيضا في المسارح ودار الأوبرا بل وحتى في طرقات المجلس التشريعي و المؤتمر الوطني· وكانت النشرات توزع حاوية عناوين بيوت الدعارة والرسوم المطلوبة وكذلك أسماء النسوة وعناوينهن· وفي 42 أبريل أصدر حي (قسم) المعبد Temple أمرا: "الجمعية العامة··· رغبة منها في إيقاف ما لايحصى من كوارث (سوء حظ) سببها تدهور الأخلاق العامة، وانزلاق النسوة للفسق وقلة احتشامهن،··· بموجب هذا قامت بتعيين مأمورين أو مندوبين··· الخ"(62)·
وراحت أحياء (أقسام) أخرى تشن الحرب (على الفساد) فجرى تشكيل فرق من الخفر أو العسس، وتم القبض على بعض المستهترين· وأيد روبيسبير هذه الجهود، لكن بعد موته تراخت قبضة هؤ لاء المراقبين، فظهرت فتيات المتعة Filles مرة أخرى وازدهر حالهن في ظل حكومة الإدارة حتى أن النسوة ذوات الخبرات الجنسية الواسعة أصبحن زعيمات (سيدات مجتمع) ورائدات "المودة" (أي تقلدهن النسوة في لباسهن)·
وكان من الممكن مواجهة هذا الشر بتيسير الزواج المبكر، فلم يعد وجود قس مسألة ضرورية لإتمام الزواج بعد 02 سبتمبر 2971، فالزواج المدني كان كافيا من الناحية القانونية، وهذا لا يتطلب سوى موافقة الطرفين وأن يوقع الطرفان أمام السلطات المدنية· وبين أفراد الطبقة الدنيا، كانت هناك حالات كثيرة لنساء ورجال يعيش كل رجل وأليفته معا دون عقد زواج وبلا إزعاج· وكثر عدد أبناء الزنا، ففي سنة 6971 دلت الإحصاءات الرسمية على وجود 000·44 لقيط(72)· وبين عامي 9871 و 9381 كان 42% من إجمالي عدد النسوة (العروسات) في مدينة نمطية هي مولان Meulan حبالى(حوامل) عندما أتوا إلى مذبح الكنيسة(82)· وكما كان الحال في عهد الحكم السابق على الثورة كان الزنا بين المتزوجين مغفور، وكان الرجال متوسطو الحال يفضلون اتخاذ مدبرة لشئون المنزل (لا زوجة شرعية) وفي ظل حكومة الإدارة كانت مدبرات المنازل هؤلاء يظهرن في المجتمع كزوجات· وأبيح الطلاق بمرسوم صدر في 02 سبتمبر سنة 2971، ومنذ صدور هذا المرسوم أصبح يمكن الحصول على الطلاق بموافقة الطرفين أمام مسئول المجلس البلدي ·
وتضاءلـــت السلطة الأبوية مـــع التطور الهادىء في حقـوق المرأة القانونية، وتفاقم الأمر بزيادة ثقة الشباب (الأبناء) في أنفسهم، والنظــر إلــى أنفســهم باعتبارهــم قد تحرروا من ســـلطة الوالدين· وقد عرضت لنا آن بلمبتر Anne Plumptre التي تجولت في فرنسا سنة 2081 ماذكره بستاني :
"خلال فترة الثورة لم نكن نجسر على توبيخ أبنائنا إذا ارتكبوا خطأ، فقد كان أولئك الذين يسمون أنفسهم بالوطنيين يعتبرون قيامنا بتصحيح سلوك أبنائنا، مما يتناقض مع مبادىء الحرية، وقد اعتبر الأبناء مسألة تقويمهم مما يتناقض مع القانون، فغالبا ما كان الواحد من هؤلاء الأبناء يقول لأبيه إذا ما وبخه" التفت لعملك· فأنا وأنت والناس كلهم أحرار ومتساوون· إن الثورة هي أبي، ولا أب لي سواها ثم يستطرد البستاني قا ئلا: "سيستغرق الأمر سنوات طويلة حتى نعيد هؤلاء الأبناء إلى صوابهم"(92)·
وانتشر الأدب الإباحي (وفقا لما ذكرته الصحف المعاصرة) وكان هو الأثير المفضل لدى الشباب(03)· وراح بعض الآباء الذين كانوا راديكاليين في وقت سابق يرسلون أبناءهم في سنة 5971 (كما حدث سنة 1781 بعد ذلك) إلى مدارس يديرها قسس، بغية إنقاذهم من التفسخ الخلقي والتسيب الذي ساد المجتمع(13)· وظلت هناك لفترة فكرة مؤداها أن نظام الأسرة لا بد أن يكون كارثة على الثورة الفرنسية، لكن استعادة النظام في ظل حكم نابليون أرجأ التفسخ الأسري حتى أتت الثورة الصناعية ·
والنساء اللائي كن قد حققن مكانة رفيعة في ظل حكم ما قبل الثورة إنما كان ذلك بفضل تأثير سلوكهن الراقي المهذب وترقية تفكيرهن وتثقيف أنفسهن، لكن هذا في غالبه كان قصرا على الطبقة الأرستقراطية والشرائح العليا من الطبقة المتوسطة· وعلى أية حال فقبيل عام 9871 انخرطت نسوة طبقة العوام بشكل واضح في الأمور السياسية· لقد كدن يكن هن صانعات الثورة بمسيرتهن إلى فرساي، وإحضارهن الملك والملكة إلى باريس ليكونا أسيرين تحت إشراف الكومون، فاكتشفن - أي نساء العوام - مدى قوتهن، فازدادت ثورتهن شراسة· وفي يوليو سنة 0971 نشر كوندرسيه Condorcet مقالا بعنوان "إعطاء الدولة الحقوق للنساء"، وفي شهر ديسمبر قامت مدام إيلدر Aelders بمحاولة لتأسيس ناد مخصص لحركة تحرير المرأة(23)· وكان صوت النساء مسموعا في ممرات الجمعيات المختلفة (الوطنية، فالتأسيسية، فالمؤتمر الوطني···) لكن محاولا ت تنظيم أنفسهن للحصول على حقوقهن السياسية ضاعت بسبب الانشغال بالحرب وعنف الإرهاب، ورد فعل المحافظين بعد شهر ثيرميدور Thermidor · ومع هذا فقد حققت النساء بعض المكاسب: أصبح للزوجة مثل الزوج حق طلب الطلاق، وأصبح رضى الأم تماما كموافقة الأب - مطلوبا لزواج الأبناء الذين لـــم يبلغــوا الرشد(33)· وفي ظــل حكومة الإدارة، أصبح النساء رغم أنه لا حق لهن في التصويــت، نفوذ سياســـي واضــح، يرقين الوزراء والجنــرالات ويمارسن بفخر حريتهن الجديدة في الســلوك والأخلاق والثيـــاب، وقد وصفهن نابليون البالغ من العمر ستة وعشرين عاما في 5971:
"النساء في كل مكان؛ في المسرحيات، وفي الطرقات العامة، وفي المكتبات· وأنت ترى نساء لطيفات جدا في غرفة دراسة الدارس· هنا فقط (في باريس) من بين بلاد المعمورة كلها تستحق النساء هذا النفوذ كله (التأثير)، وحقيقة فإن الرجال مجنونون بهن، لا يفكرون إلا فيهن، ولا يعيشون إلا عن طريقهن ومن أجلهن· وعلى المرأة كي تعرف ما لها من سلطان أن تعيش في باريس ستة أشهر"(43)·



صفحة رقم : 14568