قصة الحضارة -> عصر نابليون -> الثورة الفرنسية -> الحياة في ظل الثورة -> أساليب الحياة
3- أساليب الحياة
عادات الشعوب وأساليب حياتها تكاد تكون مثل أي شيء آخر تتأثر بحركة البندول جيئة وذهابا، تمرد وعودة عن التمرد· لقد أخذت الأرستقراطية معها وهي تفر قبل العاصفة التي ساوت الجميع - ألقابها الفخمــة، وملابس البــــلاط، ولغتها المعطـــرة، وتوقيعاتها الزهرية، وتحررها الواثق، ونعمتها وترويها· وسرعان ما أصبح لطف الصالونات واللياقة في الرقص، وأسلوب المتعلمين من نقائص النبـــلاء التي قــد تؤدي إلى احتجازهـــم باعتبارهـــم عناصر مشكوك فيها متمسكة بالتقاليد البالية، وكأنهم مخلوقات عاشت في عصر ما قبل الطوفان ونجت منه(53)· وفي نهاية سنة 2971 أصبح الفرنسيون كلهم في فرنسا "مواطنين" وأصبحت الفرنسيات كلهن "مواطنات"· الكل على قدم المساواة فلا أحد "سيد Monsieur " ولا "سيدة Madame " ، وأصبح الخطاب بأنتَ وأنتِ بدلا من "أنتم" أو "سيادتكم" سوا ء في المنزل أم في الشارع· وعلى أية حال فمع بواكير عام 5971 انتهى هذا الأسلوب في التخاطب (التخاطب بصيغة الفرد) وعاد التخاطب بأسلوب التوقير أو الجمع Vous وحل "السيد" و "السيدة" محل المواطن" و "المواطنة"(63)· وفي ظل حكومة نابليــون عـــادت الألقاب ثانية بل وزاد استخدام الألقاب بحلول سنة 0181 عن ذي قبل·
وتغيرت طرز الثياب ببطء أكثر من تغير الظاهرة السابقة، فالرجال الأثرياء رفضوا أن يتخلوا عما اعتادوا عليه منذ مدة طويلة من ملابس النبلاء؛ القبعة المرتفعة ذات الزوايا الثلاث في أعلاها، والقميص الحريري، والرباط المنساب، والصدرية الملونة المشغولة (المطرزة)، والمعطف الكامل الذي يصل إلى الركبة، والسروال القصير الذي ينتهي أدنى الركبة بدرجات متفاوتة، والجورب الحريري والحذاء ذو الأبزيم مربع المقدمة· وفي سنة 3971 حاولت لجنة الأمن العام "تلطيف الزي الوطني الحالي لتجعله متمشيا مع العادات الجمهورية وروح الثورة"(73) لكن لم يلتزم سوى الطبقات الوسطى بسروال >بنطلون< العمال والحرفيين الطويل· واستمر روبيسبير نفسه يلبس كاللوردات، ولم يكن هناك ما يفوق بهاء الثياب الرسمية التي كان يرتديها أعضاء حكومة الإدارة التي كان بارا Barras يمشى بها متبخترا · ولم يكسب السروال (الطويل) معركته ضد السروال >البنطلون< الذي يصل إلى الركبة (الكلوت أو السروال القصير) الا منذ سنة·0381 وكان العوام فقط (السانس كولوت) هم الذين يرتدون قلنسوات الثورة ذات اللون الأحمر والكارمانول Carmagnole ·
وتأثرت ملابس النساء بالثورة التي كان رجالها يرون أنهم يسيرون في نهجهم كروما الجمهورية، وكبلاد الإغريق البيريكيسية· وقد اتخذ جاك لويس ديفيد Jacques Louis David الذي ساد الفن الفرنسي من 9871 إلى·5181 من الأبطال الكلاسيين موضوعات لأعمالة الفنية الأولى وجعل لباسهم على النمط الكلاسي· وعلى هذا فإن النسوة الباريسيات الأنيقات (الحريصات على ارتداء الأزياء الحديثة او المتمشية مع >الموضة<)، قد تحلين بعد سقط البيوريتاني (المتطهر) روبيسبير عن >التنورة< Petticoat والبلوزة (القميص)، وأصبح لباس الواحدة منهن في الأساس عباءة فضفاضة بسيطة شفافة (تشف وتصف) بلغ من شفافيتها أنها توحي بالخطوط الداخلية الناعمة(توحي بالأجزاء المنبعجة والمنقعرة في الجسم Contours ) حتى أنها لتثير الرجل الذي لم يستثر في حياته· فخط الخصر في هذا الزي مرتفع ارتفاعا غير معتاد ليدعم الثديين، وخط الرقبة في هذا الزي منخفض بما فيه الكفاية ليقدم للرائى مساحة واسعة مكشوفة، والكمان قصيران قصرا يكفى لإظهار الذراعين الجذابين· واستبدل (الكاب) بعصابة الجبين، واستبدل الحذاء ذو الكعب العالي، بصندل بلا كعب (شبشب أو خف) وكتب الأطباء عن الوفيات بين النساء اللائي يرتدين هذه الملابـــس البهيجة ويذهبن بهـــا إلى ا لمســارح والمتنزهات، بســبب الهبوط الحاد في درجة الحرارة في باريس مساء(83)· وفي هذه الأثناء، عمل الرجال، والنساء الغندورات المثيرات للإعجاب على جذب انتباه الطرف الآخر بالملابس اللافتة للنظر بشكل مبالغ فيه· وفي سنة 2971 ظهرت مجموعة من النساء بزي الرجال أمام اجتماع كومونات باريس، فوجه إليهن شوميت Chaumette تأنيباً مهذبا: "أنتن أيتها النسوة الطائشات اللائي تردن أن تكن رجالا· ألستن قانعات بنصيبكن كما هو؟ ماذا تردن أكثــر مــن هـــذا؟ إنكــن تسيطرن على مشاعرنا، المشرع والرئيس تحت أقدامكن · فسحركن هو وحده الذي لا نستطيع مقاومته، لأنه سحر الحب، وبالتالي فهو عمل الطبيعة، فباسم الطبيعة، كن كما أرادت الطبيعة لتحققن الهدف الذي قصدته الطبيعة بوجودكن"(93)·
وعلى أية حال فقد كانت النسوة متأكدات أنهن قادرات على إدخال تحسينات على الطبيعة· ففي إعلان في المونيتير Moniteur في 51 أغسطس سنة 2971 أعلنت مدام بروكين Broquin أنها " لم تستنفد مسحوقها الشهير، ذلك المسحوق الذي يصبغ الشعر الأحمر أو الأبيض ليجعله كستنائياً (بنيا مشوبا بحمرة) أو أسود، وهي تعرضه لمن يطلبه" وعند الضرورة كان الشعر الذي لا يرضى عنه صاحبه يغطى بالباروكات (الشعر المستعار) والذي كان في حالات كثيرة مقطوعا من ضفائر النسوة الشابات اللاتي قصت المقصلة رقابهن(14)· وفي سنة 6971 اعتاد الرجال من الطبقتين الوسطى والعليا أن يضفر الواحد منهم شعره الطويل في ضفيرة(24)·
وخلال العامين الأوليين من الثورة راح الثمانمائة ألف (سكان باريس) يمارسون أعمالهم المفيدة، ولا يلتفتون إلا بين الحين والحين لما يجري في الجمعية الوطنية والسجون· لقد كانت الحياة مبهجة بما فيه الكفاية في ذلك الوقت بالنسبة للطبقات العليا؛ فقد استمرت الأسر في تبادل الزيارات والدعوة إلى الولائم، واستمر حضور الحفلات الراقصة، وغير الراقصة، والمسرحيات والذهاب لسماع الكونشرتات حتى خلال فترات العنف بين مذابح سبتمبر سنة 2971 وسقوط روبيسبير في يوليو سنة 4971 عندما جرى في هذه الفترة إعدام 0082، كانت الحياة التي يحياها - تقريبا - كل من بقوا على قيد ا لحياة تسير سيرها المعتاد في العمل واللهو، والممارسات الجنسية والحب الأبوي· لقد كتب سيباستيان ميرسييه Sébastian Mercier في سنة 4971:
"الأجانب الذين يقرأون صحفنا يتصورون أننا جميعا قد غرقنا في الدم وغطتنا الأسمال البالية، ونعيش حياة ملؤها البؤس· لكنهم سيدهشون عندما يعرفون أن الطريق الرائع الذي تحفه الأشجار في الشامب إليزيه (ميادين الإليزيه) حيث توجد في الجانب المقابل منه المركبات الخفيفة الأنيقة التي تجرها الجياد (الحناطير) والنسوة الجذابات الجميلات·· هذه الحدائق الباهرة، أصبحت الآن أكثر بهاء وأجمل من ذي قبل"(34)·
وكانت هناك مباريات رياضية في الكرة والتنس والركوب، وسباق الخيل، وألعاب القوى··· وكان هناك متنزهات شائقة مثل حدائق التيفوليTivoli حيث يمكنك التمتع، وشراء الكماليات من (البوتيكات) ومشاهدة الألعاب النارية والبهلوانات وهم يمشون على الحبال، أو إطلاق البالونات، وسماع (الكونشرتات) أو أن تضع صغيرك في الحلقة الدوارة (الأرجوحة الدوارة Jeu de bagues )، وستجد معك في هذه المتع اثني عشر ألفا آخرين في أيام المرح· ويمكن أن تجلس في مقهى أقيم في الهواء الطلق أو تحت سرادق مقهى دي فوي Café de foy أو في إحدى مقاهي الطبقة الراقية مثل مقهى تورتوني Tortoni أو مقهى فراسكاتي Frascati أو تتبع السائحين إلى النوادي الليلية مثل السافو Caveau ( القبو) والسوفاج (الوحشي ) Sauvage ومقهى العميان Les Aveugles حيث يلتقى الموسيقيون العميان· ويمكن أن تذهب إلى ناد لتقرأ أو تتحدث أو تستمع إلى المناقشات السياسية· ويمكنك أن تحضر إحدى المهرجانات المرحلة المتنوعة التي نظمتها الدولة والتي نسقها فنانون مشاهير مثل ديفيد David ، وإذا أردت أن تجرب رقصة جديدة كرقصة الوالتس waltz التي وصلت من ألمانيا لتوها يمكنك أن تجد شريكة ترا قصك في إحدى قاعات الرقص التي بلغ عددها في باريس في عهد حكومة الإدارة ثلاثمائة قاعة(44)·
والآن (5971) في السنوات التي خمدت فيها حدة الثورة، سمح لبعض المهاجرين (الذين كانوا قد فروا من فرنسا بسبب أحداث الثورة) بالعودة إلى فرنسا، وبرز النبلاء المختبئون من مخابئهم التي كانوا يتوارون فيها، وأظهر البورجوازيون ثرواتهم فشيدوا البيوت الغالية وأثثوها بالأثاث الفاخر وحلوا نساءهم بالجواهر الثمينة وأقاموا الحفلات المسرفة· وظهر أهل باريس من شققهم ومنازلهم للتمتع بقسط من الشمس نهارا أو ليستمتعوا بالنسيم ليلا في حدائق التوليري أو لكسمبورج أو على طول شوارع الإليزيه التي تحفها الأشجار، وخرجت النسوة متفتحات كالزهور في أثوابهن الجذابة الطائشة (العربيدة) ورحن يحركن مراوحهن بطريقة معبرة تعجز عنها الكلمات· وأحذيتهن الأنيقة التي تظهر ما خفى من القدمين بشكل فاتن· لقد بعثت الحيا ة في المجتمع من جديد·
لكن مئات الأسر (أو نحو ذلك) التي تكوّن الآن المجتمع لم تكن من الأسر عريقة النسب والفلاسفة الذين حققوا شهرة عالمية والذين كانوا متألقين في الصالونات في ليالي ما قبل الثورة، وإ نما كانت هذه الأسر في الغالب من محدثي النعمة (الأثرياء الجدد) الذين كدسوا الليفرات Livres من (شراء) العقارات الكنسية، أو من التعاقدات مع الجيش أو الاحتكارات التجارية أو البراعة المالية أو الصداقات السياسية· وراح بعض من عاشوا أيام البوربون وظلوا على قيد الحياة يترددون على منازل مدام دى جينلى Genlis أو أرملتى كوندورسيه Condorcet وهيلفيتيوس Helvétius، لكن معظم الصالونات التي فتحت بعد موت روبيسبير (باستثناء حلقة مدام دى ستيل Stael ) لم تكن عامرة بالمناقشات الذكية وكان ينقصها جو الراحة والطمأنينة، ذلك الجو الذي كان يسودها في الماضي (قبل الثورة) نتيجة الأمن الذي طال أمره والثراء الراسخ· وصالون القمة الآن هو ذلك الذي يعقد في الغرفات المريحة في قصر بارا عضو مجلس الإدارة في لكسومبرج أو في قصر جروسبوا Chateau Grosbois الذي يمتلكه أيضا· ولم تكن جاذبية صالون بارا هذا ناتجة عن معارف الفلاسفة (المثقفين) الذين يرتادونه وإنما كانت جاذبيته تكمن في ابتسامات مدام تاييه Tallien وجوزفين دى بوهارنيه·
ولم تكن جوزفين قد تزوجت نابليون بعد، كما أن مدام تاييه Tallien لم تعد بعد (في ذلك الوقت) زوجة له (لتاييه)، لقد تم تزويج هذه المدام الأخيرة منه في 62 ديسمبر 4971، ونودي بها فترة سيدة ثيرميدور Notre Dam de Thermidor لكنها هجرت هذا الإرهابي الذي أفل نجمه بعد فترة وجيزة من زواجها منه وأصبحت خليلة (راعية شئون منزله) لبارا Barras ، وغمزها بعض الصحفيين في أخلاقها ومع هذا فقد بادلوها جميعا الابتسام لأنه لم يكن في جمالها شيء من الكبر أو التغطرس، وكانت معروفة برقتها الشديدة مع النساء والرجال على السواء· وقد وصفتها في وقت لاحق الدوقة دبرانت D` Abrantés بأنها : "فينوس الكابيتول وأنها أجمل من العمل الفني الذي أنجزه فيدياس Pheidias، لأنك تدرك فيها اكتمال الملامح كما في عمل فيدياس، وتدرك فيها التناسق نفسه في الذراعين واليدين والقدمين، كل هذا تعبير كريم حي"(54)· وكان من فضائل بارا Barras أنه كان كريما معها ومع جوزفين، وقدر جمالهما تقديرا يفوق مجرد الإعجاب الجنسي، ذلك التقدير الذي اشترك معه فيه مئات المنافسين الذين كانوا من الممكن أن يفوزوا بهما، لكنه بارك فوز نابليون بجوزفين·