قصة الحضارة -> عصر نابليون -> ملوك أوروبا في مواجهة التحدي -> الشعب الألماني -> اليهود الألمان

3- اليهود الألمان


لا بد وأن يكون الإيمان المسيحي قد ضعف مع ازدياد التسامح الديني، فكلما زادت المعرفة وجدناها تتخطى الحواجز التي وضعتها العقائد· لقد أصبح من المستحيل بالنسبة إلى المسيحيين المتعلمين أن يكرهوا اليهودي المعاصر بسبب صلب المسيح السياسي (صلب تم لأسباب سياسية) مضى عليه ثمانية عشر قرنا، وربما قرأ المسيحي المتعلم في إنجيل متى (12slash8) كيف أن جموعاً من اليهود قد انتشروا وجريد النخيل في أيديهم للترحيب بداعيهم المحبوب (المقصود المسيح عليه السلام) وهو يدخل القدس قبل موته بأيام قليلة· وعلى أية حال فقد كان اليهو د في النمسا قد جرى تحريرهم على يد جوزيف الثاني، وفي بلاد الراين على يد الثورة الفرنسية أو نابليون، وفي بروسيا على يد هاردنبرج فخرجوا سعداء من معازلهم ghettos وتكيفوا مع محيطهم وزمانهم لباساً ولغة وعادات، وأصبحوا عمالاً قادرين ومواطنين موالين للبلاد التي يقيمون فيها وعلماء مبدعين ودارسين مخلصين· لكن ظلت معاداة السامية سائدة بين غير المتعلمين أما بين المتعلمين فقد فقدت بعدها الديني وإنما كان لها (أي معاداة السامية) أساس يغذيها في المنافسة الاقتصادية والفكرية وفي أساليب الحياة في (الجيتو) التي ظلت باقيه إذ حافظ عليها اليهود الفقراء·
لقد شهدت فرانكفورت أيام جوته (جيته) عداء شديدا بين المسحييين واليهود، واستمر هذا العداء طويلا، لأن البورجوازية الحاكمة هناك أحست بالمنافسة اليهودية الشرسة في مجال التجارة والصرافة والأمور المالية· وكان مير أمشل روتشلد Meyer Amschel Rothchild اليهودي (3471 - 2181) يعيش بينهم في هدوء وأسس أعظم البيوت المالية في التاريخ بإقراض الأمراء المفلسين مثل الكونتات الألمان (اللاندجريف) في هس - كسل Hesse - Cassel، أو بعمل اليهود كوكلاء لإنجلترا لتقديم الأموال للذين يواجهون نابليون· ومع هذا فقد كان نابليون هو الذي أصرّ في سنة 0181 على منح يهود فرانكفورت حريتهم كاملة بضمان تشريعاته المعروفة بالمدونة النابليونية(7)·
أما ماركوس هيرز (هيرتس) (7471 - 3081) فقد عمل على استخدام الازدهار - المالي لليهود في رعاية العلوم والفنون· ولد ماركوس في برلين وهاجر في سنة 2671 إلى كونيجسبرج Konigsberg حيث كان كانط وغيرهم من الليبراليين قد أقنعوا الجامعة بقبول اليهود، وسجل هيرتس في الجامعة كطالب طب لكنه كان يحضر محاضرات كانط ويواظب عليها غالبا مع حضوره محاضرات الطب وجعله حبه للفلسفة واهتمامه بها تلميذا أثيرا لكانط(8)·
وعندما حصل على درجته العلمية في الطب عاد إلى برلين وسرعان ماحقق شهرة ليس فقط كطبيب وإنما أيضا كمحاضر في الفلسفة وجذبت محاضراته في الفيزياء مستمعين ذوي حيثية كان منهم فريدريك وليم الذي أصبح بعد ذلك هو الملك فريدريك وليم الثالث وكان زواجه من هنريتا دي ليموس Henrietta de Lemos - إحدى أجمل نساء عصرها - سببا لبهجة وتعاسة معا· لقد جعلت بيته صالونا يضارع أفضل صالونات باريس· وامتد كرمها ليشمل الجميلات اليهوديات الأخريات بمن فيهن برندل Brendel ابنة موسى مندلسون (أصبح اسمها بعد ذلك دورثيا Dorothea) وراشيل ليفن Rachel Levin التي تزوجت بعد ذلك الدبلوماسي والمؤلف فارنهاجن فون إنس Varnhagen Von Ense وتحلّق ذوو الحيثية من مسيحيين ويهود حو ل ربات الفتنة والجمال الثلاث، وابتهج المسيحيون إذ وجدنهن جميلات جسدا وعقلا وكن مغامرات فاتنات· وحضر ميرابو Mirabeau هذه الاجتماعات ليناقش الأمور السياسية مع ماركوس كما كان يتناول موضوعات تتسم بالظرف والذكاء مع هنريتا، وكانت حوارته معها أكثر من حوارته مع زوجها ماركوس وكانت تستمتع بإعجاب ذوي الحيثية من المسيحيين بها، ودخلت في علاقات غامضة مع فيلهلم فون همبولدت Wilhelm Von Humboldt المعلم، ومع فريدريش شليرماشر Friedrich Schleiermacher الذي كان داعية فلسفيا· وفي هذه الأثناء شجعت دوروثا Drotha - التي كانت قد تزوجت سيمون فايت Simon Veit وأنجبت له طفلين - على ترك زوجها وبيتها لتعيش مع فريدريش فون شليجل Von Shlegel كخليلة له، غير أنها أصبحت بعد ذلك زوجته·
وكان لهذا الاختلاط الحرّ بين المسيحين واليهود أثر مضعف على الجانبين: لقد أضعف العقيدة المسيحية (السائدة) عندما وجد المسيحيون أن المسيح ورسله Apostles (الكلمة في المصطلح المسيحي تعني الدعاة له وسفر أعمال الرسل يعني سفر الدعاة أو المبشرين بالمسيحية) الاثني عشر لم يكن هدفهم سوى الوصول إلى يهودية جديدة إصلاحية، أو بتعبير آخر لم يكن هدفهم سوى إصلاح اليهودية لتكون مطابقة لشرائع موسى والهيكل· وكذلك أدى هذا الاختلاط إلى إضعاف عقيدة اليهود الذين رأوا أن إخلاصهم لليهودية يشكل معوقا قاسيا يحول بينهم وبين المكانة الاجتماعية والتواؤم مع من يعيشون معهم· وعلى كلا الجانبين (المسيحي واليهودي) أدى تدهور المعتقد الديني إلى تساهل في المعايير الأخلاقية·



صفحة رقم : 14719