قصة الحضارة -> عصر نابليون -> ملوك أوروبا في مواجهة التحدي -> الأدب الألماني -> الأخوان شليجل

6- الأخوان شليجل


كان الأخوان أوجست (أغسطس) فيلهلم فون شليجل (7671 - 5481)، وفريدريش فون شليجل، أخوين جديرين بالتأمل: إنهما مختلفان في الطباع والعشق والدراسات والعقائد، لكن يجمعهما في النهاية السنسكريتية والفيلولوجيا (فقه اللغة)· ولدا في هانوفر لقس بروتستنطي، وأصبحا لاهوتيين عندما بلغا الحلم ومهرطقين (شاكين في المسيحية) عندما بلغ الواحد منهم العشرين· واستمتع أوجست فيلهلم في جوتينجن Gottingen بدراسة انتقال الكلمات من خلال محاضرات كريستيان هين Heyne ذي الشخصية الجذابة الذي ترجم أعمال فرجيل Virgil كما استمتع بدراسة التراث الفكري في العصر الإليزابيثي من خلال المحاضرات التي كان يلقيها جوتفرايد بيرجر Gottfried Burger مترجم أعمال شكسبير ومؤلف أغنية لينور(12) Lenore· واستقبلت الجامعة نفسها فريدريش فون شليجل بعد استقبالها لأخيه بخمس سنوات، وبدأ كدارس للقانون كما راح يتنقل بين دراسة الأدب والفن والفلسفة، ونضج سريعا فلحق بأخيه في يينا Jena في سنة 6971 وشاركه تأسيس الأثيناوم Athenaum التي أصبحت طوال عامين (8971 - 0081) متحدثا باسم الحركة الرومانسية الألمانية ومرشدا لها· وساهم نوفاليز وشليرماشر Schleiermacher بالكتابة فيها، وأتى تيك Tieck وأضاف فيشته وشلنج فلسفتيهما، وكان يأتلف إلى هذه الدائرة الحية بعض النسوة الموهوبات، والمتحررات على نحو رومانسي·
وكان فريدريش فون شليجل هو ضابط السرعة الفكرية - إن صح هذا التعبير - لهذه المجموعة، ويكفي لهذا أنه كان أسرعهم في اعتناق الأفكار وأسرعهم أيضا في التخلي عنها·
وفي سنة 9971 أصدر رواية (لوسينده Lucinde) وهي التي أصبحت علماً أحمر يقود الهجوم ضد المعتقدات القديمة والمحرمات taboos المزعجة· وكان هذا الهجوم نظرياً دفاعا عن حق الشعر كمفسر للحياة ومرشد لها· فالصناعة والاتجاه النفعي هما ملائكة الموت، فلم هذا الاندفاع المستمر والعمل الدائب بلا راحة ولا استرخاء؟ ويعلن بطل الرواية أيضا إن إنجيلنا هو إنجيل المرح والحب(22) وهو يعني مرح الحب وبهجته دون زواج· وعندما حاول فريدريش زيارة أخيه الذي كان في ذلك الوقت معلما في جوتنجن (0081) أرسلت السلطات في هانوفر أمرا حاسما لرئيس الجامعة: إذا أتى فريدريش شليجل وهو أخو أستاذ عندكم، إلى جوتنجن بغرض الإقاقه لأي فترة فلن يسمح له بذلك، وسيكون أمراً طيبا إذا طلبتم منه مغادرة المدينة، ذلك لأن كتاباته تنحو نحواً غير أخلاقي(32) والمرأة التي ألهمت شليجل في روايته (لوسينده Lucinde) هي كارولين ميشاليز (ميكاليز Michaelis) ولدت كارولين في سنة 3671 وتزوجت أستاذا جامعيا (4871) ولم تكن سعيدة معه، فتحررت عندما مات، وراحت لعدة سنوات تمرح مستمتعة بمباهج الحياة كأرملة جميلة ومفكرة· وقد أحبها أوجست فون شليجل عندما كان طالبا في جوتنجن، واقترح عليها الزواج فرفضت لأنه أصغر منها بأربع سنوات· وعندما غادر ليدرس في أمستردام (1971) راحت تدخل في سلسلة من المغامرات الجنسية ففوجئت بأنها حامل وانضمت إلى مجموعة ثورية في مينز (مينتس) وقبض عليها، وعمل والداها على إطلاق سراحها فذهبت إلى ليبزج (ليبتسج) لتضع حملها، وهنا ظهر أوجست فون شليجل وعرض عليها الزواج مجددا فقبلت فتزوجها (6971) وتبنى طفلها، واتجهوا جميعا (الزواج والزوجة وابنها) إلى يينا Jena·
وفي يينا أصبحت المضيفة الأثيرة لليبراليين لتعلمها وحيويتها ومناقشاتها الذكية وقال عنها فيلهلم فون همبولدت Von Humboldt إنها أكثر من عرف من النساء مهارة ونشاطا(42)· وأتى جوته وهيردر Herder من فيمار ليجلسوا إلى مائدتها ويسعدوا بصحبتها(52)· ووقع فريدريش فون شليجل الذي كان يقيم مع أخيه في هذا الوقت - وقع هو الآخر في حبها، فجعل منها (لوسينده) في روايته وراح ينشد لها أناشيد الحب ويرفع من شأنها حتى ضاقت الكلمات عن عاطفته· وفي هذه الأثناء ذهب أوجست شليجل الذي كانت عاطفته إزاءها قد بردت - ليحاضر في برلين (1081) حيث كون علاقة مع صوفي برنهاردي Sophie Bernhardi التي طلقت زوجها لتعيش مع حبيبها الجديد· وعندما عاد أوجست شليجل إلى يينا وجد كارولين مفتونة بشيلنج (4081) وعاشت معه حتى ماتت (9081)، ورغم أن شيلنج تزوج بعد موتها إلا أنه ظل يذكرها لأعوام عديدة حتى لو لم تكن لي ما كانت (زوجة) فلابد أن انعى الجنس البشري لفقدها فقد كانت أنموذجا للكمال العقلي لم يعد موجودا· إنها امرأة نادرة ذات روح قوي وعقل حاد اجتمعا معا في جسد أنثى فاتنة تضم قلبا عاشقا(62)·
وكانت دوروثيا فون شليجل مثل سابقتها ذات أهمية وتأثير في حياة هذه المجموعة· كان اسمها قبل الزواج برندل مندلسون (مندلسهوهن)· ورغبة منها في إسعاد والدها المشهور تزوجت في ستة 3871 من البنكي (المالي) سيمون فايت Veit وأنجبت له ابنا (فيليب فايت) الذي أصبح رساما شهيرا في الجيل التالي· وكان مالها وفيرا فزهدت فيه لكثرته وراحت تغامر في مجال الفلسفة، ذلك المجال الذي كان لايزال غير أكيد (كانت المباراة فيه غير مضمونة النتائج) وأصبحت نجما بارزا في مجال الفكر في صالون راشيل فارنهاجن Rachel Varnhagen في برلين، وهناك التقى بها فريدريش فون شليجل ووقع في حبها مباشرة أما هي فكانت مفتونة بأفكاره ووجدته يسبح فيها (في أفكاره) ففتنت به فتنها بأفكاره، وكان وقتها في الخامسة والعشرين من عمره، وكانت هي في الثانية والثلاثين، لكن المؤلف كان مفتونا بأمور جذابة كثيرة في هذه الأنثى ذات الثلاثين ربيعا femme de trente ans· لم يكن جمالها صارخا لكنها قدرت مواهبه العقلية وكانت تستطيع أن تصحبه متفهمة اكتشافاته الفلسفية والفيلولوجية (في علم فقه اللغة)، وأحس زوجها أنه فقدها فطلقها (أي تحولت للمسيحية وتركت ديانتها اليهودية) وتسمت باسم دورثيا، وأصبحت زوجة رسمية لفريدريش في سنة 4081·
نعود إلى أوجست شليجل، فقد أصبح في هذا الوقت أشهر محاضر في أوربا، وأدت ترجمته لأعمال شكسبير إلى إحرازه مكانة عالية وأصبح شكسبير (هذا الإليزابيثي العظيم) يكاد يكون ذا شعبية في ألمانيا كشعبية في إنجلترا· ورغم أن أوجست شليجل يدعى مؤسس المدرسة الرومانسية في ألمانيا(72) إلا أنه كانت فيه كثير من صفات العقل الكلاسي: النظام والوضوح والتناسب والاعتدال، والتقدم الثابت الوئيد للوصول إلى هدف محدد· وقد تجلت هذه الصفات بشكل أقوى في محاضراته عن الأدب الدرامي التي ألقاها في مدن مختلفة وأعوام مختلفة، وكذلك محاضراته عن شكسبير العامرة بالتعليقات والملاحظات التنويرية، والتي كان ينقذ فيها بشجاعة في بعض الأحيان - شاعره المحبوب (شكسبير)· لقد كتب وليم وهازلت W. Hazlitt في سنة 7181: لقد قدم إلى حد بعيد أحسن عرض ظهر لمسرحيات شكسبير ···· إننا نعترف - مع قليل من الغيرة - ·· أننا يجب أن نذكر لناقد غير إنجليزي تقديمه للمبررات التي تؤكد نظرتنا نحن الإنجليز إلى شكسبير(82)·
وعندما كانت مدام دي ستيل تطوف ألمانيا بحثا عن مادة لكتابها حثت أوجست شليجل (4081) على أن يذهب معها إلى كوبت Coppet ليدرِّس لأبنائها وليعاونها في إعداد موسوعتها مقابل 000،21 فرنك في السنة، فسافر معها أخيرا إلى إيطاليا وفرنسا والنمسا وعاد معها إلى كوبت وظل معها هناك حتى سنة 1181 عندما رضخت السلطات السويسرية لأوامر نابليون فأمرته بمغادرة سويسرا، فذهب إلى فينا واعترته الدهشة إذ وجد أخاه يحاضر فيها مدافعا عن العصور الوسطى باعتبارها العصر الذهبي الذي شهد وحدة أوربا سياسة وعقيدة·
لقد كانت فينا هي العاصمة الكاثوليكية لألمانيا وكان فريدريش ودوروثيا قد تحولا للكاثوليكية في سنة 8081· وكانت دوروثيا قد قالت منذ أعوام خلت: إن صور القديسين والموسيقا الكاثوليكية تهز مشاعري فقررت أنني لو تحولت للمسيحية فسأصبح كاثوليكية(92) أما فريدريش فون شليجل فعزا تحوله إلى الكاثوليكية إلى ميله للفن a predilection d,artiste وعلى أية حال، فإن الكاثوليكية من نـواح كثيرة - باعتبارها مثيرة للخيال والمشاعر والجمال - تبدو ملائمة للمشاعر الرومانسية·
لقد ضجر الرجل العقلاني من العقل بعد أن تأثر بالأسرار الدينية (الكاثوليكية)، وأحس بهوان الإنسان أمام الموت· لقد لجأ هذا الفَرْدِي individualist - بعد أن وجد نفسه وحيدا غير آمن مع نفسه - إلى الكنيسة يرتمي في أحضانها لتكون له بيتا مريحا· لقد تخلى فريدريش شليجل أمهر أنصار الاتجاه العقلي وأكثر الشباب تحمسا للفردية (الاتجاه الفردي) ودعوة إليه، وأكثر الثوار تطرفا - تخلى الآن عن كل هذا موليا ظهره لفولتير، وموليا ظهره للوثر وكالفن ليرتمي في أحضان أوربا في العصور الوسطى يأخذ عنها ويستلهم منها ويتحرق شوقا لكنيستها القابضة على زمام كل الأمور· لقد حزن للتخلي عن الميثولوجيا الملهمة (الحكايات الأسطورية) وإحلال العلم البائس محلها وأعلن أوضح عجز وأكبر نقص تعانيه كل الفنون الحديثه تتمثل في الحقيقة التي مؤداها أن الفنانين لم يعد أمامهم ميثولوجبا يستلهمون منها(03)·
وربما كانت أبحاثه في آداب الهند القديمة وميثولوجيتها قد عمقت احترامه للميثولوجيا· وكان قد بدأ في باريس سنة 2081 هذه الدراسات التي بلغت ذروتها، ووضعت أساسا لتطور هذا النوع من الدراسات فيما بعد تجلت في كتابه (لغة الهند وحكمتها Uber die Sparche und Weisheit der Inder) الذي ساهم في تأسيس علم فقه اللغة المقارن في نطاق اللغات الهندو أوربية· وناقش فريدريش هذا الجانب من حياته مع أخيه الذي انضم إليه لفترة في فينا في سنة 1181، واستحضر أوجست في ذهنه عمله مع كريستيان هاين Heyne في مجال فقه اللغة (الفيلولوجيا)، فواصل عمله في هذا المجال وانضم إلى أخيه في دراسة اللغة السنسكريتية، فأثمر هذا الاشتراك أفضل النتائج التي تمخضت عنه حياتهما، وأرسخها وأكثرها دواما· لقد حقق فريدريش لنفسه مكانة في الحياة الثقافية والسياسية في فينا، ووصل إلى منصب أمانة السرفي الحكومة النمساوية، وساعد في كتابة هجوم عنيف على نابليون أصدره الأرشدوق كارل لودفيج كجزء من معركة سنة 9081، وفي سنة 0181 وسنة 2181 ألقى في فينا محاضرات شهيرة متميزة في التاريخ الأوربي والأدب في أوربا، وفي هذه المحاضرات عرض نظرياته في النقد الأدبي وقدم تحليلا كلاسيا للرومانسية· وفي سنة 0281 أصبح محرراً لصحيفة الجناح اليميني الكاثوليكية وهي صحيفة كونكورديا Concordia وراح في هذه الصحيفة يهاجم الأفكار والمعتقدات التي طالما كان قد دافع عنها بحماس في أثناء الأيام التي قضاها في يينا Jena مما أدى إلى فرقة بلاعودة بينه وبين أخيه· وكانت آخر محاضراته في دريسدن في سنة 8281 ومات في العام التالي، واحتفظت دوروثيا بذكراه واحتفت بها وظلت مخلصة لأفكاره وأعماله حتى ماتت في سنة 9391·
وعاش أوجست فون شليجل بعدها· وفي سنة 2181 انضم إلى مدام دي ستيل مرة أخرى، وأرشدها خلال ترحالها في النمسا وروسيا إلى سان بطرسبورج، وذهب معها إلى ستوكهولم، حيث تم تعيينه - بوساطة من مدام دي ستيل - سكرتيرا لبيرنادوت Bernadotte ولي عهد السويد، وصحبه في معركة 3181 ضد نابليون·
ومنحته الحكومة السويدية رتبة النبالة لخدماته· وفي سنة 4181 انضم مرة أخرى إلى مدام دي ستيل في كوبت Coppet وظل معها حتى ماتت· وعند هذا الحد يكون قد أنجز ما وعدها به، فقبل منصب أستاذ الأدب في جامعة بون (8181) فواصل دراساته للسنسكريتية وأنشأ مطبعة سنسكريتية ونشر - وحرر - نص الباجافاد جينتا Bhagavad - Gita والرامايانا Ramayana، وظل طوال عشر سنوات يعمل في مكتبة الأدب الهندي Indische Bibliothek، ومات في سنة 5481 وهو في الثامنة والأربعين بعد أن ترك لنا كنوزا: نقل التراث الشكسبيري إلى ألمانيا، وقد بذل في هذا العمل جهدا مضنيا، وقدم لنا - من خلال محاضراته - حصاد ذكريات كولردج وأفكاره ليلتقط منها للفلسفة الألمانية· لقد كانت حياته (أوجست فون شليجل) حياة مثمرة·










الفصل الثاني والثلاثون
الفلسفة الألمانية
9871 - 5181

تَنَاوُلِنا للفلسفة المثالية التي قال بها كانط ومن أتى بعده من تلاميذه، يعوقه أن كلمة مثالي ideal في التفكير الدارج أصبحت تعني التميز الخلقي، كما يعوقه أيضا أننا اعتدنا - في عصر العلم والصناعة - أن نفكر في الأشياء التي ندركها وقلما نفكر في عملية الإدراك نفسها· وهناك اتجاهان متنافسان في الفلسفة اليونانية حيث وجدنا ديموقريطس Democritus يبدأ بالجزء أو الذرة (أو الفرد المكون للكل أو العنصر المكون لما هو شامل) بينما بدأ أفلاطون بالأفكار· وفي الفلسفة الحديثة ركز بيكون Bacon على معرفة الكون، وبدأ ديكارت بالتفكير نفسه· ووجدنا هوبز Hobbes يلخص كل شيء في المادة، أما بيركلي Berkeley فكل شيء عنده عقل أو نفس· وقد أعطى كانط الفلسفة الألمانية خصوصيتها بتدليله على أن مهمة الفلسفة الأساسية هي دراسة العمليات التي نكون بها الأفكار· لقد أقر بوجود الحقيقة الخارجية (الكائنة خارج العقل أو النفس) لكنه أصر على أننا لانستطيع أبداً أن نعرفها بشكل موضوعي ما دمنا لا نستطيع معرفتها إلا كمتغيرات بواسطة أعضاء وعمليات الإدراك الموجودة في أفكارنا· وعلى هذا فالمثالية idealism الفلسفية هي النظرية القائلة بأننا لا نعرف شيئا سوى الأفكار، وعلى هذا فالمادة matter هي شكل من أشكال العقل is a form of mind ·









صفحة رقم : 14732