قصة الحضارة -> عصر نابليون -> ملوك أوروبا في مواجهة التحدي -> الأدب الألماني -> أصوات المشاعر

5- أصوات المشاعر


لقد كادت الرومانسية الألمانية تؤثر في كل مناحي حياة الأمة: لقد أثرت في موسيقا بيتهوفن وفيبر Weber وفيلكس مندلسون Felix Mendelssohn، وفي روايات هوفمان وتيك Tieck وفي فلسفة فشته وشيلنج Schelling، كما كان لها تأثيرها في الدين كما وجدنا عند شلايرماشر Schleiermacher ومئات من المتحولين للمسيحية مثل فريدريش شليجل، ودوروثيا مندلسون Dorothea Mendelssohn· لقد قاد خمسة رجال - على نحو خاص - هذه الحركة في الأدب الألماني، ولا بد أن نذكر من بينهم امرأة رومانسية شاركتهم الحب المنطلق أو المقيد كما شاركتهم الاهتمامات الفكرية مما صدم العقيلات المحتشمات من فرانكفورت إلى الأودر·
وكان بالقرب من منابع الحركة طائر يحرك جناحيه ونعني به فيلهلم هينريش فاكنرودر Vackenroder (3771 - 8971) وهو كاتب خجول سهل الانقياد غير مرتاح للحقيقة (الواقع) والعقل، إنما كان يجد راحته في الدين، وكان يجد سعادته في الفن· لقد رأى في قدرة الفنان على التصور والتنفيذ شبها قريبا بعملية الخلق· وقد صاغ دينه الجديد هذا في مقالات ذات طابع ديني تعبدي تناول فيها ليوناردو، ورافائيل، وميكل (ميشيل) أنجلو، ودوتر Dutter··· ووجد دعما لاتجاهه هذا في جامعتي جوتنجن وإرلانجن Erlangn، إذ أيده لودفيج تيك Tieck وتحمس له واقترح لكتابات صديقه عنواناً طريفاً هو: (فيوضات قلبية لأخ مسيحي عاشق للفن Hrzensergiessungen eines Kunstlibenden Klosterbruders) ولأن هذه المقالات أخذت طابعا مسيحيا فقد وجدت لها ناشرا في سنة 7971· لقد سخر فاكنرودر من المذهب العقلي الذي أخذ به ليسنج ومن المذهب الكلاسي الذي أخذ به فنكلمان Winckelmann، وكانت سخريته هذه تكاد تكون بالحدة نفسها التي تجنح إليها البورجوازية الألمانية لإعلاء الفن والسموّ به، وراح فاكنردور يعمل في عصره على إعادة أخويات الفنانين والعمال التي كانت سائدة في العصور الوسطى· وأصيب فاكنردور بالتيفود فمات وهو في الرابعة والعشرين من عمره·
وظل صديقه تيك Tieck (3771 - 3581) طوال ثمانين عاما يلعب مباراة خطرة (فيها مخاطرة) إذ راح يؤيد المشاعر في مواجهة العقل، ويؤيد الخيال في مواجهة الواقع reality· لقد كان هو وفاكنرودر Wackenroder قد درسا الدراما في العصر الإليزابيثي والفن في العصور الوسطى، وابتهجا لسقوط الباستيل· إلا أن تيك كان يختلف عن فاكنرودر في عدة أمور منها أنه كان يتمتع بروح الفكاهة ونزعة للعب· لقد شعر أن الحياة مباراة يلعبها الأرباب مع الملوك والملكات والأساقفة والفرسان والحصون والكاتدرائيات، والرهانات متواضعة (بسيطة)، أو بتعبير آخر جائزة الفائز في المباراة بسيطة· وعندما عاد لمسقط رأسه برلين بعد أن قضى أيام الجامعة نشر في الفترة من 5971 إلى 6971 رواية في ثلاثة مجلدات نشر في الفترة من 5971 إلى 6971 رواية في ثلاثة مجلدات (Die Geschichte des Herrn William Lovell) كتبها على نمط أسلوب رتيشاردسون، ووصف فيها بتفاصيل حساسة العلاقات الجنسية والانتقالات بين ربوع الفكر لشاب تخلى عن الأخلاق المسيحية واللاهوت المسيحي وانتهى إلى أنه ما دامت النفس - على وفق نظرية المعرفة عند فشته - هي الحقيقة الوحيدة التي يمكننا معرفتها بشكل مباشر، فلتكن إذن هذه النفس (الذات) هي معيار الأخلاق وواضع القوانين:
لا توجد كل الأشياء إلا لأنني أفكر فيها، ولا وجود للفضيلة إلا لأنني أظن وجودها (أفكر فيها) ···· الحق أقول لكم إن الرغبة الجنسية هي السر الكبير لوجودنا· فالشعر والفن، بل وحتى الدين، هي مجرد شهوة جنسية مقنّعة· وأعمال النحاتين وشخوص الشعراء ورسوم الفنانين التي نركع أمامها ليست سوى مقدمة للمباهج الحسية··
إنني أشفق على الأغبياء الذين يثرثرون ثرثرة المعتوهين عن الإثم والفسوق اللذين ترتكبهما حواسنا· وإنهم بائسون مصابون بالعمى· إنهم يقدمون الأضاحي لرب عنين (عاجز جنسيا) لا يمكن أن تسعد عطاياه قلب الإنسان··· لا، إنني وهبت نفسي لخدمة إله أعلى تنحني أمامه كل الخلائق، إله يوحّد في طياته كل مشاعر الطرب والنشوة والحب وكل شيء··· ففي أحضان لويزا فقط عرفت ما هو الحب، وذكرى أميليا Amelia تبدو لي الآن على البعد باهتة قليلا يغلفها الضباب(81) هنا وقبل (الإخوة كرامازوف The brothers Karamazov) (0881) بخمسة وثمانين عاما نجد نبوءة إيفان كرامازوف بأن قرنا من التسيب الأخلاقي سيأتي بعده: إذا لم يكن الله موجودا فكل شيء مباح وعلى أية حال فإن لوفيل Lovell (بطل رواية تيك الآنف ذكرها) عاد للدين قبل أن يموت· لقد قال إن أكثر المفكرين الأحرار طيشا ولا مبالاة أصبح أخيرا متعبدا(91) وكان هذا الاعتراف مناسبا تماما وفي وقته ذلك أنه قتل بعد ذلك بفترة وجيزة في مبارزة·
وكان الكتاب مفخرة لشاب تحرر قبل أن يصل لسن (العقل)· وفي سنة 7971 نشر قصة قصيرة (إكهرت الشقراء Der blonde Eckhert) حازت إعجاب الأخوين شليجل· وذهب إلى يينا Jena بناء على دعوتهما، كانت يينا وقتها معقلاً للرومانسية· وعلى أية حال فإن تيك Tick غادرها في سنة 1081ليعيش في عزبة أحد أصدقائه في فرانكفورت - آن دير - أودر· Frankfort - an - der Oder، وتفرغ لفترة لترجمة مسرحيات العصر الإليزابيثي، ثم لتحرير أعمال معاصريه نوفاليز Novalis وكلايست Kleist وكتب عنها كتابات نقدية متألقة· وسار على خطى ليسنج فشغل طوال سبعة عشر عاما منصب الدراماتورج Dramaturg (المدير والناقد الدرامي) في مسرح دريسدن Dresden وجلبت له مقالاته الصريحة بعض الأعداء لكنها أيضا حققت له الشهرة على مستوى الأمة كناقد أدبي لايسبقه في هذا المضمار (النقد الأدبي) سوى جوته، وأوجست فون شليجل· وفي سنة 2481 دعاه إلى برلين الملك فريدريك وليم الرابع (الذي لم يكن قد سمع مطلقا بروايته (لفل Lovell) وقبل تيك الدعوة (وكان قد تجاوز لفل منذ زمن) وعاش أعوامه الباقية كأحد عمد الأدب في العاصمة البروسية· أما نوفاليز Novalis (2771 - 1081) فلم يعش طويلا ليتمكن من التخلص من أفكار شبابه· وقد تمتع بمزايا غير مؤكدة - كأديب - لنبالة مولده، فقد كان أبوه مديرا لإنتاج الملح في سكسونيا، وكان - أي أبوه - ابن عم الأمير كارل فون هارنبرج الوزير البروسي· وكان الاسم الحقيقي لشاعرنا هو فرايهر فريدريش فيليب فون هاردنبرج ، لكنه استخدم الاسم نوفاليز Novalis كاسم مستعار، لكنه (أي هذا الاسم) كان هو الاسم الفعلي لأحد أجداده في القرن 91· وكانت أسرته تنتمي إلى جماعة هيرنهت Herrnhut التقوية (جماعة دينية بروتستنطية) وكان كأسرته ذا ميول دينية قوية لكنه عمل أخيرا على التوفيق بين الكاثوليكية والبروتستنطية كخطوة نحو توحيد أوربا·
والتحق وهو في التاسعة عشرة من عمره بجامعة يينا Jena وكون علاقات صداقة حميمة مع تيك Tick وشيلر وفريدريش فون شليجل وربما حضر بعض محاضرات فيشته التي كان لها ثأثيرها في يينا وفيمار· وبعد أن قضى عاما في جامعة فيتمبرج تبع أباه إلى أرنشتادت Arnstadt في ثورينجيا Thuringia· وبالقرب من جروننجن Gruningen التقى بصوفي فون كوهن Sophie Von Kuhn فاهتز لقوامها الجميل وشخصيتها الفاتنة لدرجة أنه طلب يدها من والديها· وفي سنة 5971 كان هو وصوفي قد خطبا رسميا رغم أنها لم تكن قد تجاوزت الرابعة عشرة من عمرها· وسرعان ما سقطت مريضة بداء الكبد، فأجريت لها عملتيان أنهكتاها فماتت في سنة 7971، ولم يفق نوفاليز أبدا من هول موت حبيبة قلبه فكانت أشهر قصائده هي ستة ترنيمات (0081) Hymenenen an die Nacht كذكرى حزينة لحبيبته صوفي·
وفي سنة 8971 خطب جولي فون كاربنتير لكن الخطبة فشلت فلم ترس السفينة على شاطئ الزواج· وشارك السل (ذات الرئة) الحزن في إنهاك الشاعر فمات في 52 مارس 1081 وهو الثامنة والعشرين· وترك لنا رواية هي (هنريش فون أوفتردنجن Heinrich Von Ofterdingen (8971 - 0081) تقدم لقرائها تعبيرا مكثفا عن التطلع للسلام الديني (التوق الشديد إ ليه، والمقصود التطلع لنهاية الخلاف بين الكاثوليكية والبروتستنطية)· وكان قد امتدح في وقت من الأوقات (فيلهلم ميستر Wilhelm Meister) التي ألفها جوتة كعمل واقعي يقدم وصفا مفيدا لتطور الإنسان، لكنه عاد الآن يدينها باعتبارها تضفي المثالية على الأعمال الدنيوية· وكان البطل في روايته كشخصية تاريخية، فهو المؤلف الحقيقي لرواية (Nibelungenlied)، فجالاهاد Galahad كرس نفسه لتتبع وردة زرقاء رمزا لتحول الموت إلى فهم لا حد له (خالد) ولا نهاية· يقول هنريش: إنها الوردة الزرقاء التي طالما تقت لرؤيتها، إنها دوماً في عقلي ولا أستطيع أن أتخيل سواها(02)· إننا نجد هنا، كما نجد في مقاله الذي حقق شهرة في وقت من الأوقات (الدولة المسيحية في أوربا) دفاعا عن العصور الوسطى كعصر مثالي (بل إنه دافع عن محاكم التفتيش) شهدت فيها أوربا وحدة سياسية ووحدة في عقيدتها الدينية، وكان من رأيه أن الكنيسة على حق في مقاومتها للعلم المادي والفلسفة العلمانية (غير الدينية)· ومن هذا المنظور يمكننا القول إن التنوير كان يتراجع حزينا· ولما كان الموت يدعوه إليه راح نوفاليزي يرفض كل الأهداف الدنيوية والمباهج الأرضية وراح يحكم بحياة أخرى (في العالم الآخر) لا مرض فيها ولا نصب ولا حزن، بل لا نهاية له·



صفحة رقم : 14731