قصة الحضارة -> عصر نابليون -> ملوك أوروبا في مواجهة التحدي -> الأدب الألماني -> الوِجد الرومانسي

4- الوجد الرومانسي


كان أكثر الكتاب تألقا في هذا الأوج الألماني هم أولئك الذين روعوا عصرهم بصيحات الغرائز وانفلاتها من قيود العقل، وانفلات المشاعر من أحكام الفكر وانفلات الشباب من حكم كبار السن وانفلات الفرد من ضوابط الأسرة والدولة· إن القليلين منّا هم الذين يقرأونهم هذه الأيام لكنهم كانوا في جيلهم ألسنة لهب تشعل النار في المفكرين والمثقفين الذين كانوا مهيئين لها، وفي الروابط الاجتماعية التي تحبس النفس - المحلقة بطبعها - داخل قيود العادات والمحرمات taboo والأوامر والقانون·
وكان مصدر هذه الثورة هو الاستياء الطبيعي الذي ينظر من خلاله أي مراهق للقيود التي يفرضها الوالدان والإخوة والأخوات والمعلمون والدعاة ورجال الشرطة والنحاة والمناطقة وعلماء الأخلاق· ألم يثبت الفيلسوف الذائع فيشته Fichte أن الحقيقة الأساسية لكل منا هي وعيه الفردي بنفسه؟ وإن كان الأمر كذلك، فإن الكون لا يعني لأي منا شيئا سوى ما يتعلق بتأثيره في الشخص نفسه، وقد يحق لأي منا أن يتوقف أمام التراث والتقاليد والمحاذير والقوانين والعقائد ليطلب السبب الذي يجعل طاعتها لازمة أو بتعبير آخر من حق الفرد أن يتساءل لم يجب عليه احترام التقاليد والموروثات والمحاذير والقوانين والعقائد· إن المرء قد يرضخ لوصايا الله خوفاً منه، أو لوصايا أحد رجال الله الذين اكتسوا بالقداسة، لكن كيف يكون الأمر وقد تحول الله عند ديدرو Diderot ودلمربير d, Alembert وهيلفيتيوس Helvetius ودولباش d, Holbach ولامتري Lo Mettrie إلى مجرد قوانين موضوعية تسيّر الكون؟
وقد أضيفت الآن الثورة إلى حركة التنوير الفخورة المتحررة لقد ذابت التقسيمات الطبقية، فأولئك اللوردات الذين كانوا ذات يوم يصدرون القوانين وينتزعون الطاعة أصبحوا الآن يسارعون إلى الهرب· فلم يعد هناك حاجز بين الطبقات، ولم يعد هناك غول من الموروثات والتقاليد يساند القوانين· الآن أصبح في استطاعة أي فرد أن يكمل طريقه ليصل إلى أي وضع وأي سلطة، وله أن يختار الطريق إلى المقصلة· لقد فتح الطريق أمام أصحاب المواهب وأصحاب المخالب· لم يحدث أبدا في تاريخ الحضارة المعروف أن كان الإنسان على هذا القدر من الحرية - حرية أن يختار عمله ومشروعه ورفيقه وزوجه (أو زوجته) ودينه وحكومته ونظامه الأخلاقي· وإذا خلت الساحة إلا من كيانات الأفراد فماذا بقي للدولة (ككيان) والكنيسة والجيش والجامعة؟ لن يبقى إذن سوى مؤامرات أفراد يتمتعون بمزايا خاصة للإرهاب والهمجية، ولتشكيل الأمور وفسخها، ولفرض الضرائب وتسيير أمور الحكم، وليسوقوا الباقين إلى المذابح؟ وقلما تستطيع عبقرية أن تحقق إنجازاً في ظل هذه القيود، ثم أليست عبقرية واحدة عدل عدد كبير من المعلمين والجنرالات والباباوات والملوك أو مئات التيجان؟
وعلى أية حال فقد كان هناك إلى جانب هذا الاتجاه الجديد الداعي إلى التحرر من كل شيء، كثير من الأرواح الحساسة التي شعرت أن العقل قد انتزع الكثير في طريقه إلى التحرر· فالعقل هو الذي هاجم الدين القديم بما فيه من حكايات القديسين وطقوس عطرة، وموسيقاً محركة للمشاعر، ومريم العذراء الشفيعة والمسيح المخلص (بتشديد اللام وكسرها)· وكان العقل هو الذي أحل محلّ هذه الرؤى السامية عمليات مادية كئيبة تتحرك بلا هدف نحو الدمار، وكان العقل هو الذي أحل محل صورة امرأة ورجل يعيشان في تواصل يومي مع المعبود، صورة رجل وامرأة مجسدين يقتربان كل يوم أكثر فأكثر بشكل تلقائي (أوتوماتيكي) على نحو مؤلم منحط، حتى يأتي موت لا قيامة بعده (موت أبدي)· إن للخيال حقه حتى ولو لم يكن متسقا مع القياس المنطقي، وإننا لأكثر استعداداً للتفكير في أنفسنا كأرواح تتحكم في المادة أكثر من استعدادنا للتفكير في أنفسنا كآلات تتحكم في الأرواح· وللمشاعر حقها، وهي تترك آثارا أعمق من الفكر والعقل· فالمتجول البائس وجان جاك المندهش قد يشعر بالحكمة ويحس بها أكثر من العفريت المؤذي (الولد الشقي) في فكر فرني Ferney thought.·
لقد كانت ألمانيا قد عرفت روسو وفولتير وسمعت عنهما لكنها اختارت روسو· لقد قرأت - وأحست - بكتابيه أميل Emile وهيلويس Heloise، وفضلتهما على (القاموس الفلسفي Philosophical Dictionary) و (كانديد Candide) وقد تبعت ألمانيا ليسنج في تفضيله رومانسيات شكسبيكر على كلاسيات راسين Racine· لقد كانت ألمانيا أكثر استعداداً لتقبل (كلاريسا هارلو Clarissa Harlowe) و (تريسترام شاندى Tristram Shandy) وشخصية (أوسيان Ossian) في كتابات مكفرسون Macpherson عن مفكري باريس وأصحاب صالوناتها· لقد رفضت (ألمانيا) القواعد التي وضعها بوالو Boileau كقوانين للأسلوب الكلاسي· لقد امتعضت (ألمانيا) من التركيز على الوضوح والاعتدال، فهما لايتسقان مع الحماسة والوصول إلى الخلود، ومطلع النور·
لقد كانت الرومانسية الألمانية تحترم الحقيقة إن كان لها وجود، لكنها (أي الرومانسية الألمانية) كانت تشك في الحقيقة العلمية التي جعلت وجه الحياة كئيبا· لقد ظلت ألمانيا تحتفظ - بحب - في ذاكرتها بالحكايات الخيالية وحكايات الجنيات التي قام كليمنز برينتانو Clemens Brentano (8771 - 2481) وأشيم فون أرنيم Achim Von Arnim (1871 - 1381) بجمعها في مؤلف بعنوان Des Knaben Wunderborn (5081 - 8081)، وقام أيضا الأخوان جريم Grim (جاكوب، 5871 - 3681، وفيلهلم، 6871 - 9581) بتجميع آخر بعنوان Kinder - und Hausmarchen (2181)· لقد كانت هذه الحكايات هي صدى لطفولة الأمة وطفولة الأفراد، وكانت جزءاً من روح الألماني الطيب وربما كانت انعكاساً لما وراء الوعي عنده· وإذا كان لا بد لهذا التراث الخيالي الذي يعود إلى ما قبل الثورة؛ إلى كاثوليكية العصور الوسطى وإلى روح القصة الشعرية أن يعود فإنه يقود ألمانيا إلى الكاتدرائيات القديمة التي كستها الطحالب لفرط قدمها وإلى العقيدة الراسخة التي لا تحتمل الشك والحرفيين المهرة الذين يغمرهم النشاط والمرح، ولا بد أن يقود ألمانيا إلى الصلوات والدعوات والترانيم الدينية وأجراس والكنائس مما يجعل الرب حاضرا في الحياة اليومية للناس، ويمزج الأفراد المرهقين بمجموعة القديسين والصالحين الذين كانت حياتهم ملحمة مقدسة في التاريخ المسيحي· وبالأم العذراء Virgin Mother التي نذرت بتولتها وعذريتها للأسرة المقدسة والأمة والجنس البشري· وكان كل هذا بطبيعة الحال بقايا ذوات طابع حماسي من العقائد الوسيطة (العقائد التي سادت في العصور الوسطى) وما صاحبها من مخاوف، وهراطقة لابد من تجريمهم وأرواح حائرة، ومع هذا فقد بلغت بكثيرين من الرومانسيين الألمان ذروة التوهج والحماس وراح بعضهم - ندماً وتوبة - يلقون بأنفسهم على أعتاب المذابح الكنسية في أحضان الكنيسة الأم·



صفحة رقم : 14730