قصة الحضارة -> عصر نابليون -> ملوك أوروبا في مواجهة التحدي -> حول القلب -> سويسرا

الفصل الثالث والثلاثون


حــول القلــب


9871 - 2181


1- سويسـرا


شعرت هذه الأرض المباركة بنبص الثورة الفرنسية بكل مودة الجار· لقد رحب الليبراليون السويسريون بالثورة الفرنسية كدعوة للحرية، وأعلن جوهان (يوهان) فون ميلر Muller (2571 - 9081) أشهر المؤرخين المعاصرين في 41 يوليو 9871 أن يوم قيام الثورة الفرنسية هو أفضل يوم في تاريخ أوربا منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية، وعندما تولى اليعاقبة زمام الأمر، كتب لأحد أصدقائه الذي لا شك فيه أنك تشاركني أسفي أنه في الجمعية الوطنية (الفرنسية) نجد الفصاحة والبلاغة تطغى على الفهم الصحيح، وربما تفهم أنه نظراً لرغبتهم في أن يكونوا أحرارا إلى أقصى درجة فلن يكونوا أحرارا أبداً· ومع هذا لابد أن تتمخض الأيام عن شيء لأن هذه الأفكار تسكن في كل قلب(1)·
فريدريك - سيزار دي لاهارب Frederic - cesar desa Harpe - الذي كان قد عاد في سنة 6971 إلى موطنه سويسرا - بعد أن أشرب عقل زارفتش إسكندر Czarevich Alexander بالليبرالية - انضم مع بيتر (بطرس) أوكس Peter Ochs وغيره من الثوار السويسريين ليكونوا النادي السويسري (الهلفيتي Helvetic) الذي عمل على الإطاحة بحكم الأوليجاركيات Oligarchies (الأوليجاركية نظام يقوم على حكم الأقلية) التي تحكم الكانتونات (الولايات) السويسرية· وعندما كان نابليون يمر عبر سويسرا بعد غزوته الأولى لإيطاليا، لاحظ هذه الومضات فلفت نظر حكومة الإدارة في فرنسا أنها ستجد أعوانا كثيرين إذا اختارت مواجهة النشاطات المعادية للثورة الفرنسية التي يقوم بها المهاجرون الفرنسيون الذين تركوا فرنسا إثر أحداث الثورة فيها، والذين - أي هؤلاء المهاجرون - يجدون ملجأ عند الأرستقراطية السويسرية التي لهم العون· وأدركت حكومة الإدارة في فرنسا القيمة الاسترايتجية لسويسرا في الصراع بين فرنسا والأمراء الألمان، فأرسلت جيشا إلى الكانتونات (الولايات السويسرية) وضمت جنيف وقضت على حكم الأوليجاركات، وأقامت - بعون متحمس من الثوريين السويسريين - الجمهورية السويسرية (الهلفتية Helvetic) تحت الحماية الفرنسية (8971)·
وانقسمت الحكومة السويسرية الجديدة إلى يعاقبة (وطنيين) ومعتدلين، وفيدراليين· وقد تعاركوا وحبك كل منهم انقلابا، ولما خشوا مغبة الفوضى والحرب الداخلية طلبوا من نابليون (كان في منصب القنصل الأول في هذا الحين) أن يعطيهم دستورا جديدا· وفي سنة 1081 أرسل لهم دستورا Constitution of Mailmaison كان رغم ما به من قصور أفضل دستور كانت تأمل فيه سويسرا(2) رغم أنه - أي هذا الدستور - احتفظ بسويسرا تحت الوصاية الفرنسية· وبعد مزيد من المعارك الداخلية أطاح الفيدراليون بالحكومة الجمهورية ونظموا جيشا جديدا واقترحوا تجديد حكم الأوليجاركية (حكم الأقلية) فتدخل نابليون وأرسل جيشا من ثلاثين ألف مقاتل لإعادة السيطرة الفرنسية على سويسرا· وطلبت الفرق المتنازعة من نابليون مرة أخرى أن يتوسط بينها· فصاغ مرسوم الوساطة الذي قبلته كل الفرق الكبيرة المتنازعة· لقد أنهى هذا المرسوم الجمهورية السويسرية (الهيلفتية) وأقام الفيدرالية السويسرية التي تشبه في خطوطها الأساسية ما عليه سويسرا الآن فيما عدا التزام سويسرا بالاستمرار في تقديم عدد من بنيها كل سنة للجيش الفرنسي· ورغم هذا العبء فقد كان مرسوم الوساطة هذا دستورا جيدا(3) وأطلقت الكانتونات (الولايات) السويسرية على نابليون (معيد الحرية)·
وعلى أية حال فقد كانت سويسرا رغم بهاء مناظرها تعتبر مجالاً ضيقا ليس به إلا مرح صغير وعدد قليل من القراء والمستمعين مما لا يرضي طموح المؤلفين والفنانين والعلماء الذين راحوا يبحثون عن بلاد أوسع ذوات ميدان أرحب وفرص أكبر· فذهب جوهان (يوهان) فوسلى Fussli إلى إنجلترا ليرسم، وذهب أوجسطين دي كاندول de Candolle (8771 - 4181) إلى فرنسا وقدم هناك وصفا للنباتات وتصنيفا لها· أما جوهان (يوهان) بستالوزى Pestalozzi (6471 - 7281) فبقي في سويسرا ولفت انتباه أوربا بتجاربه في حقل التعليم· وفي سنة 5081 أسس في فيردون Yverdun مدرسة داخلية أدارها على وفق مبدأ أنه - على الأقل بالنسبة إلى الناشئة - لا يكون للأفكار معنى إلا إذا ارتبطت بأشياء حسية، وأن تعليم الأطفال يكون أفضل أي ذا ثمار أحسن إن كان من خلال أنشطة جماعية· وقد جذبت المدرسة انتباه المدرسين فقدموا إليها من اثنتي عشرة دولة وأثرت في التعليم في المرحلة الابتدائية في أوربا والولايات المتحدة· ووضعها فيشته في خطته لإعادة تربية الشباب وتعليمهم·
وقضى جوهان (يوهان) فون ميلر Muller اثنين وعشرين عاما (6871 - 8081) في تأليف كتابه متعدد الأجزاء (تاريخ الاتحاد الكونفدرالي السويسري Geschichten (Schweitzerischer Eidgenossenschaft ولم يتابع السرد التاريخي إلا إلى سنة 9841 ولكنه ظل كلاسيا في جوهره وأسلوبه· ولأنه كتاب ممتاز فقد أضفى على مؤلفه لقب تاسيتوس السويسري Swiss Tacitus وقد كان لوصفه الكانتونات (الولايات) السويسرية في العصور الوسطى بشكل يجعلها مثالية، بالإضافة إلى الانتصارات العسكرية أثر كبير في رفع الروح المعنوية للسويسريين· وقد استوحى شيلر Schiller من قصته ذات الطابع الأسطوري (وليم تل) الخطوط العريضة لمسرحيته الشهيرة· وفي سنة 0181 وكان قد بلغ الثامنة والخمسين بدأ ميلر Muler كتابة تاريخ عام (Vier und Zwanzig Bucher allgemeiner Geschichten)· وانجذب إلى ألمانيا بسبب قرائه فعمل في خدمة الناخب (الأمير) الكاثوليكي في مينز (مينتس Mainz) وانتقل إلى العمل في خدمة المستشار الإمبراطوري في النمسا وانتهى به الأمر مديراً للتعليم في وستفاليا التي كان يحكمها وقتئذ جيروم بونابرت· وعندما مات كتبت مدام دي ستيل عنه: لا نستطيع أن ندرك كيف يمكن لرأس رجل واحد أن يحوي مثل هذا الكم الهائل من الحقائق والتواريخ dates·· إننا إذ نفتقده نبدو وكأننا افتقدنا أكثر من واحد(4)·
ولا يليه في فن كتابة التاريخ سوى جان - شارلز - ليونارد دي سيسموندي de Sismondi (3771 - 2481) الذي كان أحد مرافقي (وعشاق) المدام· ولد في جنيف وهرب إلى إنجلترا تخلصا من العنف الثوري ومنها إلى إيطاليا، ثم عاد إلى جنيف بعد استتباب الأمر فيها، وقابل جرمين Germaine في سنة 3081 وصحبها إلى إيطاليا وراح في وقت لاحق يتردد على صالونها بالقرب من كوبت Coppet· وفي هذه الأثناء راح يكتب بشكل مدهش ومتواصل وأسهمت مجلدات كتابه تاريخ الجمهوريات الإيطالية في العصور الوسطى Histeire des republiques italienne on Moyenage (9081 - 8181) البالغة ستة عشر مجلدا في إلهام مانزوني Manzoni ومازيني Massini وكافور Cavour وغيرهم من زعماء توحيد إيطاليا· وظل طوال ثلاث وعشرين سنة (1281 - 4481) يعمل في تأليف كتابه ذي الواحد والثلاثين مجلدا (تاريخ الفرنسيين الذي ظل لفترة ينافس كتابات ميشيل Michelet فيما ناله من تقريظ·
وزار إنجلترا مرة أخرى في سنة 8181 وتأثر كثيراً بقوة اقتصادها حتى إنه كتب ونشر في سنة 9181 كتابا جديرا بالملاحظة ذا طابع تنبئي (مبادئ جديدة للاقتصادي السياسي Nouveaux Principes dصconomie Poiltique)· لقد ساق الأدلة على أن القضية الأساسية في الكساد الاقتصادي في إنجلترا كانت في فتور القوى الشرائية العامة مع زيادة الإنتاج زيادة سريعة نتيجة المخترعات (الحديثة)، ودلل على أن هذا الفتور في القوى الشرائية يرجع في الأساس إلى نقص الأجور، وقد تتكرر أزمات مشابهة بسبب قلة الاستهلاك طالما بقي النظام الاقتصادي دون تغيير·
وكانت اقتراحات سيسموندي Sismondi راديكالية بشكل يثير المخاوف· فرفاهية السكان لابد أن تكون هي الهدف الرئيسي للحكومة· ولابد من إلغاء القوانين المناهضة لاتحادات العمال· ولابد من تأمين العمال ضد البطالة، وحمايتهم من الاستغلال· ولايجب التضحية بمصالح الأمة أو الإنسان لصالح الجشع··· إذ يجب حماية الأثرياء من جشعهم ورغم هذه الماركسية التي سبقت الماركسية، فقد رفض سيسموندي Sismondi الاشتراكية (التي كانت تسمي وقتئذ بالشيوعية) لأنها قد تضع السلطة السياسية الهيمنة الاقتصادية في مطال الأيدي نفسها، وقد تضحي بالحرية الفردية لصالح هيمنة الدولة فيصبح سلطانها مطلقا(5)·



صفحة رقم : 14736