قصة الحضارة -> عصر نابليون -> ملوك أوروبا في مواجهة التحدي -> حول القلب -> بولندا

4- بولندا


لم تكن بولندا قادرة على مقاومة روسيا وبروسيا والنمسا تلك القوى التي قسمتها مرات ثلاث (2771 و 3971 و 5971 - 6971) فيما بينها، وبهذا التقسيم لم تعد بولندا دولة لها وجود سياسي، لكنها استمرت كثقافة غنية أدباً وفنا وكشعب تواق للحرية· وكان كل البولنديين تقريبا من السلاف فيما عدا جيب ألماني في الغرب وقلة يهودية في وارسو (فرسافا) وفي شرقي البلاد· وكان البولنديون كاثوليكاً متحمسين لأن هذه العقيدة (الكاثوليكية) كانت تواسيهم في أحزانهم وتعطيهم الأمل في الخلاص وتحفظ النظام الاجتماعي في ظل دولة محطمة، لذا فقد أدانوا الهرطقة واعتبروها خيانة (المقصود بالهرطقة هنا الخروج على الكاثوليكية) فكان نزوعهم الوطني غير متسم بالتسامح ولم يكن أحد من البولنديين - خلا الذين تلقوا قسطا وافرا من التعليم - بقادر على الشعور بالتآخي مع اليهود الذين تفوقوا في مضمار التجارة والمهن، أما اليهود الفقراء الذين يحملون سمات العزلة (الجيتو) وبؤسها فكان التعاطف معهم أقل بكثير·
وقد تعجب المسيحيون واليهود البولنديون للإهانة التي ألحقها نابليون بالنمسا وروسيا في أوسترليتز Austerlitz وزاد عجبهم وإعجابهم بانتصاراته على البروسيين في يينا Jena وأورشتدت Auerstedt، والآن (6081) فإن (نابليون) متمركز في برلين يصدر الأوامر لنصف أوربا· لقد طارد نابليون مغتصبي بولندا، وكان في طريقه لمحاربة روسيا· فإذا لم يعلن في طريقه إلى روسيا أن بولندا دولة حرة فإنه على الأقل سيقيم عليها ملكا ويمنحها دستورا ويعدها بالحماية· والزعماء البولنديون إليه فردهم بأدب مؤكدا لهم أنه سياعدهم الآن بقدر طاقته، لكن تحرير بولندا متوقف على نتيجة مواجهة التالية مع الروس·
وحذر كوزكيو سكو Kosciusko أكثر الزعماء البولنديين تحفظا أهل بولندا من تعليق الآمال على نابليون· فهو - أي نابليون - لا يفكر إلا في نفسه، وهو يكره كل أمة عظيمة، وهو طاغية ولا هم له إلا إرضاء طموحه وعندما أرسل نابليون ليسأل كوزكيو سكو عن طلباته أجاب: حكومة كحكومة إنجلترا وإلغاء القنانة (عبودية الأرض)، وأن تحكم بولندا من داترج (دانتسج) إلى المجر، من ريجا Riga إلى أوديسا Odessa(51)·
وفي هذه الأثناء نظم البولنديون جيشا صغيرا وطردوا البروس من وارسو (فرسافا)، وعندما دخل نابليون العاصمة في 91 ديسمبر 6081 استقبلة الجماهير بحفاوة بالغة وانضم الجنود البولنديون إلى جيشه راغبين في محاربة روسيا تحت قيادته، تماما كما كان فيلق بولندي يحارب باسمه (باسم نابليون) في إيطاليا· وربما كان نابليون يقدر جمال النسوة البولنديات وسحرهن أكثر من تقديره لعروض قادتهم· لقد وجدنا مدام فالفسكا Walewska التي وهبت نفسها له في البداية كنوع من التضحية أملاً في حثه على إنقاذ وطنها، وجدناها تحبه الآن بعمق وظلت معه خلال فصل الشتاء القارس الذي دمر - تقريبا - كل جيشه في إيلاو Elau، ثم عادت إلى وارسو (فرسافا)، بينما واصل هو طريقه ليهزم الروس في فريدلاند Friedland·
وفي معاهدة تيلسيت Tilsit (9 يوليو 7081) أجبر فريدريك وليم الثالث على التخلي عن مزاعمه في وسط بولندا (بولندا الوسطى) واعترفت المادة الرابعة من المعاهدة بدوقية وارسو الكبيرة (والجديدة) كدولة مستقلة يحكمها ملك سكسونيا· وفي 22 يوليو قدم نابليون للدوقية دستوراً مستقى من الدستور الفرنسي، والمساواة أمام القانون والتسامح الديني والتجنيد الإجباري، ورفع قيمة الضرائب وفرض رقابة على الصحف· ووضع الكنيسة الكاثوليكية تحت سلطة الدولة لكن كان يجب على الدولة أن تقبل بالعقيدة الكاثوليكية وتحميها· وأعطى الدستور لليهود الحقوق الكاملة لكنه اشترط توثيق الدولة لزواجهم وممتلكاتهم من الأراضي(61)· وكان نابليون يتوقع حربا حتى الموت مع إسكندر Alexander فأوعز أن يحوي الدستور البولندي تأكيدا بدعم بولندا لفرنسا· وبالفعل فقد ظلت كل الطبقات تؤيد نابليون حتى عام 4181 أي عندما أصبح - أي نابليون - غير قادر على حمايتها· وظلت الفيالق البولندية في جيوشه تحارب معه بإخلاص حتى النفس الأخير· لقد راح كثيرون من البو لنديين يهتفون في أثناء غرقهم عند انهيار جسر فوق البيريزينا Berezina: عاش الإمبراطور، رغم أنه كان عائدا من روسيا بعد أن حاقت به أكبر نكبة عسكرية في التاريخ·



صفحة رقم : 14739