قصة الحضارة -> عصر نابليون -> ملوك أوروبا في مواجهة التحدي -> روسيا -> الظروف المحيطة بالروس

الفصل الرابع والثلاثون


روســيا


6971 - 2181


1- الظروف المحيطة بالروس


كتب تاليران في سنة 6181: كان من الممكن أن تكون فرنسا والنمسا أقوى قوتين في أوربا لو لم تكن قوة أخرى قد ظهرت في الشمال (خلال القرن الأخير) تلك القوة الشمالية التي كان تقدمها المرعب والسريع مسببا بالضرورة للفزع، فقد كانت اعتداءاتها وتجاوزاتها قد أصبحت بالفعل سمة من سماتها، ولم تكن هذه التجاوزات سوى مقدمات لمزيد من الغزو الذي سينتهي بابتلاعها كل شيء(1)·
إن المساحة الهائلة يمكن أن تصنع التاريخ· طالع خريطة العالم من كالينينجراد Kaliningrad (التي عرفها كانط باسم كونيجسبرج Konigsberg) على بحر البلطيق إلى كامشتكا Kamchatka على المحيط الهادئ (الباسفيكي)، ومن المحيط المتجمد الشمالي إلى بحر قزوين، وروسيا تشغل كل المساحة الواقعة بين الهملايا ومنغوليا والصين واليايان· لندع الخريطة تتكلم أو لنستمع إلى مدام دي ستيل التي اتخذت طريقها من فينا إلى سان بطرسبورج في سنة 2181:
مساحة روسيا شاسعة لدرجة أن كل شيء يضيع فيها حتى القصور الضخام بل وحتى السكان· إنه يهيأ للمسافر فيها أنه يسافر في بلاد هجرها سكانها للتو··· وأوكرانيا خصبة التربة جدا·· فأنت ترى سهولاً شاسعة مزروعة حنطة فيهيأ لك أن أيادي خفية زرعتها، فعدد السكان قليل، والتجمعات السكنية نادرة(2)·
ويحتشد السكان في قرى متناثرة لأنهم لم ينسوا بعد التتار الذي عاثوا في الأرض فسادا وراحوا يقتلون باستمتاع· لقد رحل التتار لكن قد يأتي آخرون مثلهم، وقد تركوا (التتار) شيئا من قسوتهم ليؤثر في أساليب الروس في العيش ونزوعهم الشديد إلى الكد والكدح والانضباط· لقد كان الانتخاب الطبيعي (البقاء للأصلح) يعمل عمله فيهم بلا رحمة ليبقي على قيد الحياة التواقين للعمل يزرعون الأرض ويحرثون النساء بلا كلل ولا ملل، وقد جعل بطرس الأكبر من بعضهم جندا وملاحين، وجلب من أتوا بعده المغامرين الألمان، والتشيك المهرة، ودفعت كاترين الجيوش الكبيرة والجنرالات المغرورين ليتوغلوا جنوبا دافعين التتار والترك أمامهم فاستولو على القرم وأبحروا منتصرين في البحر الأسود·
واستمر التوسع في عهد إسكندر الأول، واستقر الروس في ألاسكا وأقاموا حصنا بالقرب من سان فرانسيسكو وأسسوا مستعمرة كاليفيورنيا(3)، لقد جعل المناخ القاسي لروسيا الأوربية - حيث لا جبال ولا غابات تحميها من برد القطب الشمالي - من الشعب الروسي شعباً شديد البأس يمكنه تحقيق المستحيل إذا وجد الخبز وأتيح له الوقت· وفي ظل هذه الظروف كان من الممكن أن يكون الروس قساة لأن الحياة قاسية عليهم، وكان من المفهوم أن يكونوا معذبين للأسرى والسجناء، ذباحين لليهود· لكنهم لم يكونوا جامدين يتعذر تغيير طباعهم، فقد أثرت الحياة الآمنة فيهم بشكل متزايد فصاروا أرق حاشية وأتقى، وراحوا يتعجبون لم قتلوا؟ ولم كانوا آثمين؟ وراحوا ينظرون إلى العالم الثائر المضطرب غير المفهوم باستغراب شديد وصل بهم إلى حد الهذيان·
إلا أن الدين هدأ من عجبهم ولطف من حدة اضطرابهم· لقد قام رجال الدين هنا بدور الجيش الروحي لدعم قوة القانون بقوى أخرى باطنية مستمدة من الميثولوجيا لإعطاء القانون بعداً باطنيا أو لشرحه وتفسيره، وللترغيب والترهيب، تماما كما فعل رجال الدين في المراحل الأولى في مجتمعات غرب أوربا· وكان القياصرة يعلمون أهمية هذه الميثولوجيا وحيويتها لتحقيق الانضباط الاجتماعي وحث العامل على أداء عمله بصبر، والتشجيع على التضحية بالنفس في الحرب والسلم· فدفع القياصرة مرتبات عالية لرجال الدين من ذوي الرتب الكنسية العليا، ودفعوا لرجال الدين ممن هم أقل درجة مرتبات كفيلة بإعاشتهم وكفيلة بدعم ولائهم الوطني· وقد حمى القياصرة المنشقين الدينيين طالما ظلوا موالين للدولة ولايسببون إزعاجا· لقد تغاضت كاترين الثانية وتغاضى أيضا إسكندر الأول عن المحافل الماسونية التي كانت تدعو - بحذر - لإصلاحات سياسية·
لقد تمسك النبلاء الروس بكل حقوقهم الإقطاعية ومارسوها وكانوا يتحكمون - تقريبا - في كل جانب من جوانب حياة أقنان الأرض العاملين في أراضيهم، فكان يمكن للسيد الإقطاعي أن يبيع رقيق الأرض من العاملين عنده، كما كان يمكنه تأجيرهم للعمل في المصانع في المدن، وكان يمكنه أن يودع من يشاء منهم في السجن ويضربه بالعصا أو يجلده بالسوط· وكان يمكنه أن يعهد بهم إلى الحكومة لتشغيلهم في سيبيريا أو سجنهم هناك(4) وكان في هذا شيء من التخفيف عليهم· وكان بيع عبد الأرض (القن) بمفرده دون أسرته أمراً نادرا، لكن بعض النبلاء أسهموا في تعليم بعض الأقنان وغالبا ما كان هذا التعليم من النوع التقني أو الحرفي الذي يفيد العمل في ممتلكات النبيل، وأحيانا يكون هذا التعليم لإعداده لمجال أوسع، فقد سمعنا أنه في نحو سنة 0081 كان هناك قن serf يدير مشروعاً للنسيج به خمسمائة نول لكن معظم هذه الأنوال كانت في بيوت في مزارع أسرة شيرمتيف Sheremetev الشاسعة· ويشير تعداد السكان في روسيا في سنة 3871 إلى أن إجمالي عدد السكان هو 850،776،52 نفس، وكان هناك من بين الذكور البالغ عددهم 925،838،21 أقنان يمتلكهم أصحاب الأراضي، يبلغ عددهم (أي الأقنان) 932و 986 و 6 (لكل قن منهم أنثاه) أي أكثر من نصف السكان· لقد بلغت القنانة ذروتها في تلك الفترة، وساءت في عهد كاترين، وتخلى إسكندر الأول عن محاولاته الباكرة للتقليل منها(5)·
ويشير الإحصاء الآنف ذكره إلى أن 5·59% من سكان روسيا من أهل الريف، لكن هذا الرقم يشتمل على فلاحين يعملون في المدن ويعيشون فيها· وكانت المدن تنمو ببطء فلم يكن يزيد عدد ساكنيها في سنة 6971 عن 000·103،1 نفس(6)·
وكانت التجارة فعالة ونامية خاصة على طوال السواحل وفي القنوات المائية الكبيرة - وكانت أوديسا Odessa بالفعل مركزا عامراً للتجارة البحرية، أما الصناعة فكان نموها أبطأ، فكثير من النشاطات الصناعية كان يتم في محلات ومنازل في مناطق ريفية· وكانت حرب الطبقات أقل استعارا بين البروليتاريا وأصحاب الأعمال منها بين طبقة التجار الصاعدة - التي كان أفرادها يئنون من وطأة الضرائب - والنبلاء المعفيين من أداء الضرائب·
وكان التفاوت بين الطبقات حادا وكان القانون يقننه ويرسم له حدودا، ومع هذا فقد كان هذا التفاوت الطبقي يقل رويدا رويدا كلما تطور الاقتصاد وانتشر التعليم· وكان الحكام الروس قبل بطرس الأكبر غير مرتاحين للمدارس لأنها تفتح الطريق لراديكالية غرب أوربا، وللعقوق (اللاتقوى) ومع هذا فإن بطرس - رغبة منه في أن يكون مقبولا لدى الغرب الأوربي - أسس مدارس للبحرية والهندسة ليدخلها أبناء النبلاء ومدارس أبرشية لإعداد القسس، واثنتين وأربعين مدرسة ابتدائية يدخلها أبناء كل الطبقات ما عدا أبناء الأقنان، وكانت هذه المدارس تنحو نحواً حرفيا (تكنولوجيا)· وفي سنة 5971 أسس ب· P· شوفالوف Shuvalov جامعة موسكو بقسمين؛ قسم للنبلاء وآخر للعوام، وتأثرت كاترين بأفكار المثقفين الفرنسيين فنشرت المدارس على نطاق واسع، ودافعت عن حق المرأة في التعليم· وسمحت بإقامة دور نشر خاصة، فقد صدر في أثناء فترة حكمها 48% من إجمالي الكتب التي نشرت في روسيا في القرن الثامن عشر· وبحلول عام 0081 كان في روسيا بالفعل طبقة مثقفين (أهل الفكر) سرعان ما ستكون ذات شأن في التاريخ السياسي للأمة الروسية· وبحلول هذا العام أيضا (0081) وصل بعض التجار أو أبناء التجار إلى مواقع النفوذ، بل ووصل بعضهم إلى مناصب في البلاط· ورغم لاهوت الأساقفة والقسس المحليين - ذلك اللاهوت المتسم بالحرارة والتوقد - فإن مستوى الأخلاق والطباع كان بشكل عام أدنى في غرب أوربا فيما عدا لدى القلة في البلاط· فغالب الروس كانوا طيبي القلب وكرماء، وربما يرجع ذلك إلى أنهم كانوا ينظرون إلى الآخرين كشركاء لهم في المعاناة في عالم قاس· لكن البربرية كانت تغلي في الروح متذكرة أياما كان على المرء فيها أن يكون قاتلا أو مقتولا· وكان الإغراق في الشراب ملجأ للراحة هروبا من الواقع حتى بين النبلاء، وكانت الحياة غير المستقرة التي عانى منها الكتاب والمؤلفون سبباً لإدمانهم الكحول وسبباًًًً لموتهم المبكر(7)· وانتشر المكر والكذب والنشل (السرقات الصغيرة) بين العوام، فكل حيلة بدت لهم جائزة في مواجهة السادة القساة، والتجار الغشاشين وجامعي الضرائب اللحوحين· وكانت النساء صارمات كالرجال أو كن - على الأقل - يعملن بجد وشدة كالرجال، ويحاربن بضراوة، وإذا سمحت لهن الظروف حكمن بمهارة، فمن من القياصرة بعد بطرس نجح في الحكم كما نجحت كاترين الثانية؟ وانتشر الزنا بزيادة الدخول· وكان الاغتسال والنظافة أمراً نادرا خاصة في الشتاء، ومن ناحية أخرى أدمن قلة من الناس الحمامات الساخنة والتدليك (المساج) القاسي· وعمت الرشوة والفساد بدءا من القن (رقيق الأرض) للنبيل، ومن موظف المدينة للوزير الإمبراطوري· لقد كتب سفير فرنسي في سنة 0281 الرشوة هنا منتشرة انتشارا لايجده المرء في أي دولة أخرى· إنها عمل منظم بمعنى من المعاني، وربما لا يوجد موظف حكومي واحد لا يمكن شراء ذمته(8)·
وفي عهد كاترين وصل البلاط إلى درجة من الدماثة والكياسة والترف لم يكن يسبقه فيها سوى بلاط فرساي في عهد اللويسيْن: لويس الخامس عشر ولويس السادس عشر رغم أن البربرية كانت في بعض الأحيان كامنة خلف المظاهر· وكانت اللغة المستخدمة في بلاط كاترين هي الفرنسية، كما كانت أفكار الأرستقراطية الفرنسية هي السائدة فيه مع استثناءات قليلة· وكان النبلاء الفرنسيون مثل الأمير دي لني Ligne غالباً ما يعتبرون أنفسهم في مواطنهم سواء كانوا في باريس أم في سان بطرسبرج وكان الأدب الفرنسي رائجا في هذا العاصمة الشمالية (سان بطرسبرج) وكانت الأوبرا الإيطالية تلقى استحسانا فيها كالاستحسان الذي تلقاه في البندقية وفينا· وكانت النسوة الروسيات الثريات وسليلات الأسر العريقة يضعن الشعر المستعار (الباروكات) ويمتعن رجالهن على نحو ما كانت تفعل الدوقات قبل الثورة الفرنسية 0في ظل نظام الحكم القديم Ancien Regime)· ولم يكن هناك شيء في المهرجانات الاجتماعية المقامة على نهر السين في فرنسا يفوق بهاء التجمعات في سان بطرسبرج وفي القصر الفخم على نهر النيفا Neva، تلك التجمعات التي تتطلع إلى شمس الصيف في سماء الليل وكأنها لا تريد أن يضيع منها المشهد(9)·



صفحة رقم : 14741