قصة الحضارة -> عصر نابليون -> خاتمة المطاف -> إلى موسكو -> طريق العودة

4- طريق العودة


91 أكتوبر - 82 نوفمبر 2181


لم يبق إلاّ أمل واحد· لقد كان كوتزوف Kutuzov قد جمّع مؤناً في كالوجا Kaluga إلى الجنوب الغربي من موسكو بتسعين ميلاً· وفكر نابليون في التوجه إلى هناك وأن يجبر الجنرال الماكر للدفاع عن هذه المخازن، فإن انتصر الفرنسيون نصراً حاسماً فقد يُجبر النبلاء الروس القيصر إسكندر على التوسّل لاتفاق سلام· وأكثر من هذا فإن كالوجا Kaluga كانت على طريق آخر مؤد إلى سمولنسك غير الطريق الذي كان الغزاة قد أتوا منه، وفي اتخاذ هذا الطريق تجنب للذكريات الأليمة عند المرور ببورودينو Borodino حيث كان قد مات كثير من رفاق الحرب· وصدرت الأوامر بالاستعداد لإخلاء موسكو·
وعلى هذا ففي 91 أكتوبر بدأ جيش نابليون (000،05 جندي و 000،05 من غير المقاتلين) في الخروج من موسكو· وكانت عربات التحميل تحوي مؤناً لعشرين يوماً، وهو وقت يكفي للوصول إلى سمولنسك حيث صدرت الأوامر بتجهيز مؤن طازجة لهم فيها(65)· وكانت هناك عربات أخرى تضم المرضى أو الجرحى وبعض الأشياء التذكارية الثقيلة وذهب نابليون المتناقص·
وفي مالورياروسلافتش Maloyarosalvets - على بعد خمسة وعشرين ميلاً من كالوجا Kaluga اتصل الفرنسيون اتصالاً مباشراً بجيش كوتوزوف، وأعقب ذلك حركة (عملية) حادة (42 أكتوبر) مما أجبر الروس على الانسحاب خلف دفاعاتهم في كالوجا Kaluga· وقرر نابليون أن جيشه ليس مجهزاً لحصار طويل، فأمر رجاله - وهو كاره - باتخاذ طريقهم عبر بوروفسك Borovsk وموزهايسك Moshaisk إلى بورودينو Borodino، وليتخذوا بعد ذلك الطريق الذي كانوا قد اتبعوه في فصل الصيف حيث كانوا مفعمين بالأمل· وعلى أية حال فإن شيطان كوتوزوف قد جعله الآن يحث جيشه على المسير في طريق مواز لطريق عدوّه مراعيا - بشكل مراوغ - أن يكون بعيداً عن نظره عدوّه، لكنه راح بين الحين والآخر يرسل فصائل من الفرسان القوزاق الأشداء لإزعاج جناحي الجيش الفرنسي وراح الفلاحون السعداء يطلقون النار على الفرنسيين المنتشرين في غير نظام والذين غامروا بالابتعاد عن خط سير الجيش البالغ ستين ميلاً(75)·
وكان نابليون محميّاً بشكل جيد اللهم إلاّ من خطر طارئ·· وكان حاملو الرسائل يجلبون إليه في أثناء مسيرته أخباراً عن نزاعات شديدة تهدّد حكومته في باريس وثورات في الأراضي (البلاد) التابعة له· وفي 62 أكتوبر بعد خروجه من موسكو بأسبوع سأل كولينكور عما إذا كان يجب عليه (أي يجب على نابليون) أن يتجه مباشرة إلى باريس ليواجه السخط الناجم عن هزيمته ويسيطر عليه، وليقيم جيشاً جديداً للدفاع عن القوات الفرنسية التي تركها في بروسيا والنمسا، فنصحه كولينكور بالذهاب(85)· وفي 6 نوفمبر وصلت أخبار مُفادها أن كلود - فرانسوا دي مال de Malet - وهو جنرال في الجيش الفرنسي - قد أطاح بالحكومة الفرنسية في 22 أكتوبر وأنه لقي دعما من أشخاص بارزين لكنه خُلِع وتمّ إطلاق النار عليه (92 أكتوبر) فتأكد العزم لدى نابليون بضرورة التوجه إلى باريس·
وكلما أوغل الفرنسيون في طريق العودة كان الطقس يزداد سوءاً· لقد تساقط الثلج في 92 أكتوبر وسرعان ما كوَّن غطاء دائماً - جميلاً وممتعاً، وتحول في الليل البارد إلى جليد انزلقت فوقه الخيول التي تجر العربات وسقطت، وكان بعض هذه الخيول منهكا بدرجة استحال معها قيامها من جديد وكان لابد من تركها، ومع طول مسافة المسيرة راح الجنود يأكلون مثل هذه الضحايا (الخيول الساقطة أو النافقة) لكن معظم الضباط حافظوا على حياة خيولهم برعايتها وتغطيتها· وكان الإمبراطور (نابليون) يركب بعض الوقت في عربته مع المارشال بيرثييه Berthier لكنه كان يسير مع الباقين مرتين أو ثلاثاً في اليوم أو أكثر من هذا على وفق رواية مينيفال Méneval(95)·
وفي 31 نوفمبر بدأ الجيش الذي تقلّص عدده الآن إلى رقم إجمالي هو 000·05 - في دخول سمولنسك، وانتابهم الرعب عندما وجدوا أن معظم الطعام والكساء الذي كان نابليون قد أمر بتجهيزهما قد فقدا نتيجة غارات القوزاق والاختلاس، ومن ثمَّ تم عرض ألف ثور مخصصة للجيش لبيعها للتجار الذين قاموا بدورهم بعرضها على أي مشتر(06)، وحارب الجنود للحصول على ما تبقى من التموينات واستولوا بالقوة على كل ما وجدوه في الأسواق·
وكان نابليون راغباً في إتاحة فترة راحة طويلة لجنوده في سمولنسك لكن أخباراً وصلته باقتراب كوتوزوف على رأس 000،08 روسي لم يعودوا راغبين - بعد - في الانسحاب، ولم يكن مع نابليون من الصالحين للقتال سوى 000،52(16)· وفي 41 نوفمبر قاد جزءا من قواته في الطريق إلى كراسنو Krasnoe مستخدماً طريقاً إلى فيلنا Vilna غير الطريق الذي سبق له استخدامه في الصيف· وكان على دافو Davout أن يتبعه في 51 نوفمبر، وني Ney في 61 من الشهر نفسه· وكان الطريق جبلياً ومغطى بالجليد، ولم تكن الخيول ذوات حدوات (جمع حدوة) تمكنها من التقدم في هذا الشتاء الروسي فانزلجت فوق التلال وفشلت كل الجهود لإقامة مئات منها، وفضلت الموت باعتباره رحمة في ظل هذه الظروف بل إن رجالاً كثيرين فضلوا هذا الحل تخلصاً من المتاعب· وذكر جندي بعد ذلك أنه طوال الطريق كنا مضطرين للخطو فوق ميّت أو محتضر(26) فعند المنحدرات الجليدية لهذه التلال لم يكن أحد يجرؤ على الركوب أو السير على قدميه، فالجميع بمن فيهم الإمبراطور (نابليون) كان يتزلج وهو جالس، كما سبق لقلّة منهم أن فعلت عند عبور جبال الألب إلى مارنجو Marengo منذ اثنتي عشرة سنة خلت· لقد كانت أياماً تعادل سنوات من عمر القائد ورجاله· ويبدو أنه عند هذه النقطة حثّ نابليون الدكتور يفان Yvan على أن يعطيه قِنّينة سم يحتفظ بها معه ليستخدم سمّها إذا أسره العدو أو لأي سبب آخر يجعله يود إنهاء حياته·
ووصل الفرنسيون كراسنو Krasnoe في 51 نوفمبر لكنهم لم يستطيعو أن ينالوا قسطاً من الراحة، فقد كان كوتوزوف Kutuzov يقترب بقوات يفوق عددها قوات نابليون بشكل كبير، فأمر نابليون رجاله بمواصلة الطريق إلى أورشا Orsha، وقاد يوجين المسيرة ليحارب بين الحين والحين العصابات المسلحة التي تعترض الطريق، وتبعه الإمبراطور (نابليون) ودافو Davout· ووصلوا أورشا Orsha بعد ثلاثة أيام أخرى من المشي على الجليد، وانتظروا هناك بقلق وصول ني Ney بالجزء الثالث من القوات الفرنسية·
وكان ني Ney هو نجم الجيش المتألق في هذا الوقت، كما كان في بورودينو Borodino· لقد قاد رجاله البالغ عددهم 0007 رجل باعتباره حارساً لمؤخرة الجيش الفرنسي، وخاض اثنتي عشرة معركة لحماية الجيش الفرنسي في أثناء انسحابه من هجوم المغيرين من رجال كوتوزوف، ودخل هو ورجاله سمولنسك أخيراً في 51 نوفمبر وصُدِموا لاكتشافهم قلة الطعام الذي تركه نابليون وديفو عند مغادرة المدينة، فأسرع برجاله رغبة في البقاء على قيد الحياة إلى كراسنو Krasnoe، فلم يجدوا نابليون كما سبق أن وعدهم وإنما وجدوا كوتوزوف الذي سد طريقهم بنيران مدفعيته المهلكة، وفي جُنح الليل (81 - 91 نوفمبر) قاد ني Ney جنوده على طول مجرى متجمد إلى نهر دنيبر Dnieper وعبره وتكبد في أثناء عبوره خسارة في بعض رجاله وخيوله وراح يحارب في أثناء مسيرته القوزاق كما حاربهم فوق المستنقعات المتجمدة ليصل إلى أورشا Orsha في 02 نوفمبر، وهنالك رحَّب نابليون والجيشان المنتظران بالأبطال الجائعين بالمديح وبالطعام· وعانق نابليون جنراله ني Ney وأطلق عليه (أشجع الشجعان) وفي وقت لاحق قال نابليون: إن لدي أربعمائة مليون قطعة ذهبية في أقبية التوليري، ويسعدني أن أعطيها جميعاً لمن يمكنني من رؤية المارشال ني Ney مرة أخرى(36)·
وليُبعد الفرنسيون عنهم جموع كوتوزوف الأبطأ، أسرعوا طوال أربعة أيام ليواجهوا العقبة التالية - نهر بيريزينا Berezina· وعندما وصلوه (52 نوفمبر) وجدوا أن الجنرال الروسي شيخاجوف Chichagov كان قد وصل من الجنوب على رأس 000،42 مقاتل كما علموا أن قوة روسية أخرى مؤلفة من 000،43 من الجنود الأشداء بقيادة المارشال لودفيج وتجنشتين Wittgenstein كانت تسرع قادمة من الشمال لحصر الفرنسيين بين نارين عندما يكونون - أي الفرنسيون - في حالة فوضى فييأس قائدهم من إنقاذهم من الدمار·
لكن الأخبار لم تكن كلها سيئة إذ سرعان ما علم نابليون أن قوتين مواليتين له قد هبتا لنجدته· فرقة عسكرية بولندية بقيادة الجنرال جان هنريك دومبروفسكو Dombrowski استطاعت - رغم أن عدد جنودها ثلث قوات شيخاجوف Chichagov - مواجهة هذه القوات وتأخير التقدم الروسي، وفي 32 نوفمبر فاجأت قوات فرنسية من 0008 رجل بقيادة المارشال أودينو Oudinot - الجنرال الروسي شيخاجوف واستولت على إحدى كتائبه وأجبروا الباقين على الفرار عبر جسر على بوريسوف Borisov ناحية الشاطئ الأيمن (الغربي) لنهر بيريزينا Berezina· وعلى أية حال فقد حطّم الروس الجسر وهو الجسر الوحيد الذي يمكن بواسطته اجتياز النهر في هذا الموقع·
ووصلت أخبار هذه العمليات إلى نابليون بينما جيشه الخائف يقترب من المجرى الذي يأملون أن يؤخّر ملاحقة كوتوزوف Kutuzov لهم (كانت قوات نابليون الآن 000،52 جندي و 000،42 من غير المقاتلين) كما كان نابليون قد فقد أيضاً عدداً من رجاله هربوا أو مرضوا أو ماتوا· لم يبق معه سوى 000،72 من 000،79 كانوا معه عند خروجه من كالوجا، والآن بقي أربعون ميلا خلف مؤخرة جيش نابليون· لازال هناك وقت لعبور النهر إذا كان من الممكن عبوره·
واستعاد نابليون الأمل فأرسل فصيلا بقيادة المارشال فيكتور Victor للاتجاه شمالاً وإيقاف ويتجنشتين Wittgenstein وفصيلاً آخر بقيادة ني Ney للانضمام إلى أودينو Oudiont في منع شيخاروف من معاودة عبور النهر· وكان نابليون منذ عبور النيمن Nemen قد احتفظ معه بالمهندسين الذين كانوا قد أقاموا الجسور هناك في شهر يونيو، والآن طلب منهم أن يجدوا بقعة على نهر بيريزينا يمكن أن يقيموا عليها جسرين طوّافين، فأخبروه بوجود هذه البعقة المناسبة في ستدنكي Studenki إلى الشمال من بوريسوف Borisov بتسعة أميال· وراح المهندسون ومساعدوهم يعملون طوال يومين في مياه متجمّدة، وغرق عدد منهم بسب انخداعهم بالجليد الطافي فوق مياه غير متجمدة، لكن في الساعة الواحدة بعد الظهر في 62 نوفمبر اكتمل إنشاء أحد الجسرين وبدأ الجيش في العبور فوقه، وبحلول الساعة الرابعة كان الجسر الثاني يحمل فوقه المدفعية والأحمال الثقيلة، وانتظر نابليون وجنرالاته حتى وصل معظم الجنود للشاطئ الغربي ومن ثم عبروا تاركين قوة بقيادة فيكتور Victor لحماية نحو 0008 من غير المقاتلين سيعبرون بعد ذلك· وقبل تمام نجاح هذه العملية الأخيرة خطط الروس لهجوم على طول جانبي النهر لكن قوات فيكتور وأودينو Oudinot وني Ney تصدّت لهم· لقد راح نابليون ينظم العبور والمقاومة في آن واحد وسط آلاف الرجال الذين يناضلون ليبقوا على قيد الحياة· وانكسر الجسر مرتين، وغرق مئات وفي هذه الأثناء كانت مدفعية ويتجنشتاين تمطر قذائف على الآلاف الأخيرة التي تزاحمت للعبور، وفي 92 نوفمبر أمر نابليون المهندسين العسكريين بتدمير الجسرين، تاركاً مئات من غير المقاتلين يبحثون عن فرصة للعبور· وكان هدف نابليون من تدمير الجسرين تعويق قوات وينتجنشتاين عن ملاحقته ومنع وصول قوات كوتوزوف· وباختصار كان عبور بيريزينا Berezina هو أكثر ذرى البطولة طوال ستة أشهر أساء فيها أحد أعظم الجنرالات في التاريخ - تقدير الأمور على حقيقتها·
واستمرت المأساة طوال مسيرة من بقي على قيد الحياة من الجنود الفرنسيين نحو الغرب، لقد هبطت درجة الحرارة ثانية إلى ما دون درجة التجمّد، لكن كان لهذا ميزة واحدة إذ سمح بالانتقال فوق المستنقعات المتجمدة فقصّر المسافة إلى فيلنا Vilna· ولأن الخوف من القوزاق والفلاحين المعادين قلّ، فقد تضاعف عدد الهاربين واختفى النظام·
ورأى نابليون أن من تبقى معه لم يعودوا في حاجة ماسة له، فوافق على نصيحة مورا Murat بالعودة إلى باريس مخافة أن تستسلم فرنسا لثورة أخرى، وعند توقفه في مولودشنو Molodechno وهي محطة التوقف الرئيسية التالية تلقّى مزيداً من التفاصيل عن أمور مال Malet· لقد انتهى هذا المغتصب لكن السهولة التي خدع بها المسؤولين دلّت على استرخاء الحكومة التي لم تعد مؤمنة بنابليون الذي غاب غياباً طويلا وربما انتهت حياته السياسية بل وربما مات· لقد راح اليعاقبة والملكيون، فوشيه وتاليران يتآمرون لخلعه·
وكي يعيد ترسيخ نفسه ويبعث اليقين في الشعب الفرنسي من جديد أرسل من سمورجوني Smorgonie في 5 ديسمبر النشرة رقم 92 التي كانت تختلف عن سابقاتها إذ كان غالبها يحوي حقائق صادقة· تقول النشرة إن الفرنسيين قد انتصروا في كل معركة واستولوا على كل مدينة مروا بها وحكموا موسكو إلاّ أن قسوة الشتاء الروسي التي لا ترحم قد دمّرت هذا المشروع العظيم وألحقت الألم والموت بالفرنسيين المتحضرين الذين اعتادوا العيش في مناخ متحضر· وأشارت النشرة إلى خسارة في الرجال بلغت 000،05 لكنها أشارت بفخر لقصَّة تخلص ني Ney من ملاحقة كوتوزوف وقدَّمت عبور نهر بيريزينا من جانبها البطولي لا المأسوي وانتهت النشرة بعبارة ذات مغزى وكأنها تحذير لأعداء نابليون: إن صحّة عظمته لم تكن في يوم من الأيام أفضل مما هي عليه الآن· ومع هذا فقد كان هو منزعجاً· لقد قال لكولينكور إنني استطيع أن أحكم قبضتي على أوربا من التوليري وحده(46) واتفق معه يوجين ومورا Murat ودافو Davout· ونقل قيادة الجيش المتحرك إلى الملك مورا وأخبره أن يتوقع مؤناً وتعزيزات من فيلنا Vilna· وفي وقت متأخر من مساء الخامس من ديسمبر غادر (أي نابليون) سمورجوني Smorgonie قاصداً باريس·
لقد تقلّصت القافلة إلى 000،53 وغادرت في اليوم التالي قاصدة فيلنا التي تبعد ستة وأربعين ميلاً· الآن انخفضت الحرارة إلى 03 درجة فهرنهيت تحت الصفر وكانت الرياح على حد تعبير جندي بقي على قيد الحياة تمزق اللحم والعظم(56)· وعندما وصلوا إلى فيلنا (8 ديسمبر) اندفع الجنود الجياع في فوضى لا حدَّ لها نحو المؤن التي تنتظرهم وضاع طعام كثير وسط الفوضى· وواصلوا مسيرتهم وفي 31 ديسمبر وعند كوفنو Kovno عبروا نهر النيمن نفسه وكان عددهم 000،03، بينما شهدهم النهر وقد بلغ عددهم 000،004 يعبرون في شهر يونيو، هنا وعند تيلسيت وعند بوزن Posen سلّم مورا القيادة ليوجين (61 يناير 3181) خائفاً - هو بدوره - على عرشه وأسرع عبر أوربا إلى نابلي· أما يوجين البالغ من العمر ثلاثين عاماً فكان ذا خبرة رغم شبابه، فتولى مسؤولية ما تبقى من الجنود وقادهم بصبر يوماً بعد يوم إلى ضفاف نهر الألب Elbe وراح ينتظر أوامر متبنيه (نابليون)·
ركب نابليون من سمورجوني Smorgonie في أوّل عربة من عربات ثلاث، وكانت كل عربة منها موضوعة على مركبة جليد يجرها حصانان، وكانت إحدى العربات تحمل أصدقاء الإمبراطور ومساعديه وأخرى تحمل حرسا بولنديا من حملة الرماح· لقد ركب نابليون مع كولينكور الذي كان ينظم مسألة تبديل الخيل، ومع الجنرال فونسوفيتش Wonsowicz المترجم الذي عَهِد إليه نابليون بمسدَّسيه قائلاً: إن حدث خطر حقيقي اقتلني ولا تجعل العدو يأسرني(66) ومخافة أن يتعرّض للاغتيال أو الأسر، تنكرَّ في لباس كولينكور، بينما ارتدى كولينكور ملابس نابليون· وقد تذكر كولينكور في وقت لاحق ما حدث، إذ قال: في أثناء مرورنا ببولندا، كنت أنا دائماً المسافر المميّز، وكان الإمبراطور - ببساطة - هو سكرتيري(76)·
لقد واصل الركب طريقه إلى باريس دون توقف ليلاً أو نهاراً، وكانت أطول فترة توقَّف فيها نابليون ومن معه هي فترة التوقف في وارسو (فرسافا) حيث أدهش نابليون الممثل الفرنسي في بولندا بقوله الذي صار مثلاً: بين الذروة والقاع خطوة واحدة(86)· وأراد أن يقوم بزيارة أخرى للكونتيسة فالفسكا Walewska لكن كولينكور نصحه بالعدول عن هذه الزيارة(96)، ربما بتذكيره أن حماه هو أيضاً إمبراطور· وفي أثناء الركوب من وراسو إلى دريسدن راح الإمبراطور (نابليون) فيما يقول كولينكور يمتدح الإمبراطورة ماري لويز باستمرار متحدثاً عن حياته الأسرية بمشاعر طيبة وبساطة يسعدُ المرءُ بسماعها·
وفي دريسدن أراح نابليون وكولينكور مركبة الجليد والحرس البولندي، وانتقلا إلى عربة السفير الفرنسي المغلقة· ووصلوا إلى باريس في وقت متأخر من يوم 81 ديسمبر بعد ثلاثة عشر يوماً من سفر كاد يكون بلا توقف· وذهب نابليون مباشرة إلى قصر التوليري وعرَّف حرس القصر بنفسه وأرسل يُعلم زوجته بوصوله وقبل منتصف الليل تماما اندفع إلى غرفة نوم الإمبراطورة وضمها بين ذراعيه(07)· وأرسل حامل الرسائل إلى جوزفين يطمئنها أن ابنها بخير وأدفأ قلبه بنظرة إلى ابنه ذي الشعر الجَعْد الذي كان قد أسماه ملك روما·


صفحة رقم : 14754