قصة الحضارة -> عصر نابليون -> خاتمة المطاف -> إلى إلبا -> إلى برلين
الفصل السَّادس والثلاثون
إلى إلبا
3181 - 4181
1- إلى برلين
بدت أوروبا كلُّها متوتّرة تعودُ القَهْقرى إلى انقسامات القرن الثامن عشر، ونابليون يندفع فوق ثلوجها وعبر مدنها ليدعّم عرشه المهتز، فقد أصبحت كل التخوم (الحدود) القديمة صدوعاً في قصر غير قائم على أساس ونعني به الحكم الأجنبي· لقد راح أهل ميلان يتفجَّعون على أبنائهم الذين استدعاهم نابليون للخدمة العسكرية في جيشه لغزو روسيا، ولم يعودوا أبداً، فراحوا (أي أهل ميلان) يعملون لخلع يوجين اللطيف النائب الغائب لملك غائب· وأهل روما المغرمون بالبابا الصبور الذي كان لا يزال يتعرض للإهانة أسيراً في فونتينبلو Fontainebleau، راحوا يدعون لعودته إلى كرسيّه الرسولي (المقصود الباباوي أى كرسي الدعاة الأوائل للمسيحية)·
وراح أهل نابلي وأمراؤها ينتظرون اللحظة التي يسقط فيها مورا Murat المنكفئ على ذاته مُخلياً الطريق أمام البوربون الشرعيِّين الممسوحين بالزيت (أي المكرّسين الذين اعتمدتهم الكنيسة)· أما النمسا - وقد مزّقتها الحرب، وتعرضت للإهانة بسبب سلامٍ مفروض عليها - فراحت تنتظر توَّاقة إلى ميترنيخ كي يحرّرها بشيء من براعته الدبلوماسية من تحالف مفروض عليها مع عدوّها التقليدي (فرنسا)· أما دول كونفدرالية الرَّاين على طول نهر الرَّاين فراحت تحلم بالازدهار الذي لا يكون بتسليم أبنائهم للعبقري الأجنبي صعب المراس· أما بروسيا فقد تمّ تجريدها من نصف المناطق التابعة لها (جرى تقليص حدودها إلى النصف) ومن نصف مواردها، وتمّ هذا على يد عدوّها القديم والتي أصبحت (أي بروسيا) الآن حليفته على غير رغبتها· إنها الآن ترى عدوّها (ناهبها) وقد مزقته كارثة مروّعة: لقد حانت الفرصة - أخيراً - والتي طالما تمنوّها· إنها الآن تتذكر دعوة فيشته Fichte وهي الآن تُصيخ السمع إلي مناشدة شتاين Stein المنفي، لطرد هؤلاء الجنود الفرنسيين الذي يَعِسُّون بينهم وهؤلاء الجامعين لتعويضات الحرب الذين يستنزفونهم، وليهبوا أقوياء أحراراً كما كانوا في ظل فريدريك وليصبحوا حصناً للحرية الألمانية·
وكان يكمن خلف هذا الامتعاض والتمرد ذي الأصول المشتركة، الأخبارُ المدهشة التي مُفادها أنّ روسيا لم تهزم فحسب جيش هذا الكورسيكي الذي كان من المفترض أنه لا يُهزم، ولم تطرد - فحسب - الجيش الفرنسي من فوق التراب الروسي، وإنما كانت تتعقّبه عبر الحدود إلى دوقية وارسو (فرسافا) الكبيرة، وكانت (أي روسيا) تدعو قلب أوروبا للانضمام إليها في حرب مقدسة للإطاحة بالمغتصب (نابليون) الذي جعل من فرنسا مركزاً لطغيانه في القارة الأوروبية·
وفي 81 ديسمبر سنة 2181 (وهو اليوم الذي وصل فيه نابليون المهزوم إلى باريس) غادر إسكندر سان بطرسبرج· وفي الثالث والعشرين من الشهر نفسه وصل إلى فيلينا Vilna وشارك كوتوزوف وجيشه الاحتفال بالنصر· لقد كان هذا الجيش قد عانى كثيراً خلال مسيرته لإزعاج الفرنسيين المغادرين لبلاده· لقد مات مائة ألف وجُرِح خمسون ألفاً، وهرب أو فُقِد خمسون ألفاً(1)· وامتدح إسكندر جنراله علناً، لكنه تشكك في قيادته في مجالسه الخاصة، لقد قال للسير روبرت ويلسون Robert Wilson (إن جاز لنا أن نصدق السير روبرت): كل ما فعله ضدَّ العدو أنه كان يُقاد (بضم الياء) بحكم الظروف· لقد انتصر رغم أنفه·· إنني لن أترك الجيش مرة أخرى لأنني لا أريد أن يتعرض لأخطار مثل هذه القيادة(2)· ومع هذا فقد منح المقاتل المُرهق أعلى الأوسمة العسكرية الروسية: وسام الصليب الكبير لجماعة Order القديس جورج (العسكرية)·
وكان إسكندر - بسبب تحقّق نبوءته - مقتنعاً بأنه - بشكل أو آخر - ملهم من السماء، فلم يأنس لتردّد جنراله، وتولّى القيادة العليا لجيوشه المتحدة بنفسه، وأصدر الأوامر لها بالتوجّه إلى الحدود الغربية· وتحاشى المرور بكونوفو Konovo (لأنها كانت مواجهة لبولندا التي كانت لا تزال مُعادية)، وواصل طريقه على طول نهر النيمن Niemen إلى تورجِّن Tauroggen حيث كان الجنرال جوهان (يوهان) يورك فون فارتنبورج Jahann Yorck Von Wartenburg على رأس قوة بروسية فسمح للروس بعبور النهر إلى بروسيا الشرقية (03 ديسمبر 2181) وحث شتاين Stein الذي كان مرافقاً لإسكندر منذ خروجه من سان بطرسبورج - حثّه على التقدم في المناطق التي يتوقّع أن يرحَّب به فيها شعب بروسيا· وأعلن القيصر العفو العام عن كل البروس الذين سبق أن حاربوه ودعا ملك بروسيا وشعبها للانضمام إليه في حربه المقدسة in his Crusads· وكان فريدريك وليم الثالث ممزَّقاً بين النسر Eagle الفرنسي والدب Bear الروسي فرفض امتداح تصرف يورك yorck وانسحب من برلين إلى بريسلو (بريسلاو Breslau)· وتقدم إسكندر عبر بروسيا الشرقية وراح الناس يحيّونه صائحين: إسكندر طويل العُمر! حياة مديدة للقوزاق(3)·
وعندما اقترب من المناطق الحدودية بين بروسيا الشرقية وبولندا، أرسل رسالة للزعماء البولنديين يعدهم بالعفو العام وبدستور وبمملكة على رأسها قيصر روسيا· وبناء على تفاهم سري - فيما يبدو - بين روسيا والنمسا قام الأمير كارل فيليب فون شفارتسنبرج Von Schwarzenberg قائد الحامية النمساوية في وارسو (فرسافا) بالانسحاب مع جنوده إلى غاليسيا (جاليسيا Galicia)، وأقبل المسؤولون البولنديون للترحيب بإسكندر، وفي 7 فبراير 3181 دخل العاصمة دون مقاومة· وهكذا ماتت دوقية وارسو الكبيرة موتاً مبكراً وأصبحت بولندا كلها تابعة لروسيا· وكانت بروسيا تأمل في استعادة جزء بولندا الذي كان ضمن ممتلكاتها في سنة 5971، فسارع إسكندر بالتأكيد لفريدريك وليم أنه سرعان ما ستوجد تسوية مقبولة لنصيبه المفقود (في بولندا)، وفي هذه الأثناء راح إسكندر مرة أخرى يحث ملك بروسيا وشعبها للانضمام إليه ضد نابليون·
وكان البروس قد طال انتظارهم لهذه الدعوة (مواجهة نابليون) فقد كانوا شعباً معتزاً بنفسه لايزال يتذكر فريدريك· ومما ألّق الروح الوطنية لدى البروس وعمَّقها هذا التوسع الفرنسي السريع، وقيام إسبانيا بانتفاضة ناجحة· وكانت الطبقات الوسطى متحمسة في الاعتراض على الحصار القاري (الذي فرضه نابليون) كما كانت معترضة على الضرائب المرتفعة المفروضة لدفع تعويضات الحرب للفرنسيين· وكان مسيحيو بروسيا مغرمين بكنائسهم غيورين على عقيدتهم، وكانت كل الطوائف المسيحية لا تثق في نابليون وتعتبره ملحداً يخفي إلحاده (المقصود عدم إيمانه باللاهوت المسيحي)· واتفقت الفرق المسيحية جميعاً على إدانة معاملته السيئة للبابا· ودعا اتحاد الفضيلة (التوجنبوند Tugenbund) كل الألمان أن يهبوا جميعاً للدفاع عن بلاد آبائهم وأجدادهم Vaterland، وسمح الملك البروسي لوزرائه بإعادة بناء الجيش البروسي وزيادة عدده تحت غطاء الدفاع عن بروسيا ضد الغزو الروسي· وكان الروس قد استولو على مارينبورج Marienburg في يناير، وفي 11 مارس توجهوا - دون أن يلقوا مقاومة - إلى برلين·
وأصدر الملك البروسي المحب للسلام قراراً فُرِض عليه من بريسلو (بريسلاو Breslau): نداء إلى شعبي An mein Volk في 71 مارس يناشدهم فيه أن يهبّوا حاملين أسلحتهم لمواجهة نابليون:
··· يا أهل براندنبورج! أيها البروس، يا أهل سيليزيا، يا أهل بوميرانيا، يا أهل ليتوانيا! أنتم تعلمون ما تحملتموه طوال سبع سنين! أنتم تعلمون القدر التَّعِس الذي ينتظركم إذا لم تُنْه هذه الحرب نهاية مُشَرِّفة· فكروا في أيامكم الخوالي - أيام الناخب الأعظم Great Elector فريدريك العظيم! تذكَّروا البركات التي حارب من أجلها آباؤكم وأجدادكم تحت قيادتهم والتي بذلوا من أجلها دماءهم - حرية الشعور، والفخر بالوطن والاستقلال والتجارة والصناعة والتعليم· انظروا إلى النموذج العظيم لحلفائنا الأقوياء الروس، انظروا إلى الإسبان والبرتغاليين· اشهدوا السويسري البطل، وشعب الأراضي المنخفضة···
إنها المعركة النهائية والحاسمة التي يعتمد عليها استقلالنا ورخاؤنا ووجودنا· ليس أمامنا بديل آخر إمّا سلام مشرف وإما نهاية بطولية··· إن الرب، وتصميمنا على هدفنا سيكونان عوناً لنا فتنتصر قضيتنا، وبانتصارها يتحقق السلام المؤكد العظيم وتعود أيامنا أكثر سعادة·
وهبَّت كل الطبقات استجابةً لدعوة الملك، فأعلن رجال الدين - خاصة البروتستنط - الحرب المقدسة ضد الكافر (نابليون)· وصرف المعلّمون - ومنهم فيشته وشليرماشر - طلبتهم قائلين لهم إن الوقت ليس وقت دراسة بل وقت عمل· وظل هيجل فوق المعركة لكن جوته بارك أحد الأفواج العسكرية التي حيّته في أثناء مرورها(4)· وعبّر الشعراء - مثل شنكندروف Schenkendrof وأولاند Uhland وريكرت Ruckert - عن مشاعر الملك والشعب بأشعارهم، أو نحّوا أقلامهم جانباً وامتشقوا الحسام أو حملوا البنادقيات، ومات بعضهم - مثل ثيودور كورنر Korner - في المعركة· وعاون إرنست موريتز أرندت Ernst Moritz Arndt - الذي عاد من منفاه في روسيا - في رفع الروح المعنوية الألمانية وصياغتها بقصيدته (أتلك ألمانيا أرض الآباء؟!)· وفي حرب التحرير هذه وُلدت ألمانيا جديدة·
وعلى أية حال فما من أمة يمكنها أن تعتمد على المتطوِّعين عندما يكون وجودها في خطر وعلى هذا فقد أمر فريدريك الثالث بالتجنيد الإلزامي لكل الذكور ما بين السابعة عشرة والأربعين، مع عدم قبول أي بديل (بمعنى عدم قبول تطوع شخص بدلاً عن الآخر) وكان هذا في اليوم نفسه الذي ناشد فيه شعبه القتال لتحرير البلاد· وعندما بدأ ربيع سنة 3181 كان لدى بروسيا 000،06 رجل مدرّب ومستعد للخدمة العسكرية· ومن بين الجيوش المختلفة التي كانت قد أتت من روسيا، كان هناك 000،05 رجل صالحين للقتال· وبهؤلاء الجنود البالغ عددهم 000،011(5) دخل إسكندر وفريدريك وليم المعركة التي كان عليها أن تقرر مصير نابليون وتكوين أوروبا·
وقد تحقّقا من أن هذا العدد قد لا يكون كافياً فراحا يبحثان عن حلفاء يمكنهم المساهمة بالرجال والأموال· وظلت النمسا لفترة على إخلاصها لتحالفها مع فرنسا فقد كانت تخشى أن تكون أول من يتعرض لهجوم نابليون إن هي انضمت إلى الحلف الجديد، وتذكر فرانسيس الثاني أنّ له أختاً في التاج الفرنسي· وكان الأمير بيرنادوت Bernadotte قد وعد إسكندر بتقديم 000،03 جندي له(6) لكنه شغل معظمهم بفتح النرويج· أما إنجلترا فتعهدت بتقديم مليوني جنيه إسترليني لدعم هذه المعركة الجديدة بنهاية شهر أبريل، وفتحت بروسيا موانئها للبضائع البريطانية وسرعان ما وصلت هذه البضائع بكميات كبيرة إلى المخازن على نهر إلبا (إلبه Elbe)·
ومات كوتوزوف Kutuzov في سيليزيا Silesia في 82 أبريل، وكان لايزال ينصح الروس بالعودة إلى بلادهم، وأمر إسكندر بأن يتولى بارسلي دي تولي Tolly أمر الجيش الروسي بعد موت كوتوزوف، لكن إسكندر احتفظ بالقيادة العليا لنفسه (جعل من نفسه قائداً أعلى للقوات المسلحة)· إنه (إسكندر) قد انطلق ليحقق في تقدمه غرباً كل ما كان يريد نابليون تحقيقه في تقدمه شرقاً: وأن يغزو بلاد العدو ويهزم جيوشه ويستولي على عاصمته ويجبره على التخلّى عن عرشه، ويجبره على السلام·