قصة الحضارة -> عصر نابليون -> خاتمة المطاف -> إلى إلبا -> طريق السلام

6- طريق السّلام


لقد كان نابليون في سان ديزييه St. Dizier على بعد 051 ميلاً من باريس عندما وصلته الأخبار (72 مارس) بأن الحلفاء يحاصرون باريس، فانطلق بجيشه في الصباح التالي، وبعد ظهر اليوم نفسه تلقى رسالة عاجلة أكثر أهمية: حضور الإمبراطور أمر ضروري إن كان راغباً في ألا تستسلم عاصمته للعدو· لا يجب تضييع لحظة واحدة· وترك نابليون جيشه عند تروي Troye وامتطى حصانه طوال معظم الأميال المتبقية رغم آلامه، واقترب من باريس (13 مارس) وأرسل كولينكور Caulaincourt إلى باريس على أمل أن يحثّ هذا الروسي إسكندر على عقد تسوية·· وواصل الإمبراطور (نابليون) طريقه راكباً حصانه إلى فونتينبلو مخافة أن يُقبض عليه إِنْ - هو - دخل المدينة (باريس)، وفي مساء اليوم نفسه تلقى رسالة من كولينكور: لقد خاب مسعاي(13)· وفي 2 أبريل علم أنه نُحِّي عن العرش، ففكّر للحظة كم هو شيء يدعو إلى السرور أن يترك العرش· لقد قال: إنني لستُ معلّقاً بالعرش· لقد وُلدت جندياً· إنه يمكنني أن أكون مواطناً دون تذمّر· لكن وصول جيشه الذي كان عدده 000،05 مقاتل لمس الوتر المناسب في طبيعته(23)، فأمر أن ينصب هذا الجيش خيامه على طول إيسون Essonne (أحد روافد السين) استعداداً لأوامر أخرى، وقاد مارمون إلى هذا المعسكر ما تبقى من الجنود الذين كانوا يدافعون عن باريس·
وفي 3 أبريل استعرض نابليون الحرس الإمبراطوري في ساحة ميدان فونتينبلو، وقال لهم: لقد عرضت على الإمبراطور إسكندر سلاماً لا يتحقق إلا بتضحيات جسام·· لكنه رفض·· إنني في غضون أيام قليلة سأذهب لأهاجمه في باريس· هل أعوّل عليكم؟ وفي البداية لم يجيبوه لكن عندما سألهم: أأنا على صواب؟ أجابوا: عاش الإمبراطور! هيا إلى باريس· وراح رماة القنابل ينشدون نشيدي الثورة في أيامها الأولى: نشيد الانطلاق، ونشيد المارسيليز·
وكان الجنرالات متشكّكين· لقد وجدهم في اجتماع خاص معارضين لعودة البوربون، لكنهم أيضاً كانوا غير متحمسين لبذل محاولة لإخراج الحلفاء من باريس· وفي 4 أبريل دخل المارشالات (ني Ney وأودينو Oudinot ومونسي Moncey وليفيبفر Lefebure) غرفة نابليون دون دعوة منه وقالوا له إنه ما دام السينات (مجلس الشيوخ) قد عزله فإنهم لا يستطيعون أن يتبعوه في هجوم على القوات المتحالفة والحكومة المؤقتة، فقال لهم إنه سيقود الجيش بدونهم، فردّ عليه نَيْ Ney بحسم: إن الجيش سيطيع قادته فسألهم نابليون ماذا يريدون منه، فأجاب نَيْ Ney وأودينو Oudinot: التنازل فكتب نابليون تنازلاً مشروطاً يترك بمقتضاه العرش لأبنه تحت وصاية ماري لويز· وأرسل كولينكور، ومكدونالد ونَيْ Ney إلى باريس لتقديم هذا العرض· وفي الطريق توقفوا عند معسكر إيسون Essonne لاستشارة مارمون Mormont فراعهم أن وجدوه قد شرع في التفاوض مع شفارتسنبرج حول شروط تسليم المدينة·
وفي تلك الليلة (4-5 أبريل) قاد مارمون رجاله البالغ عددهم 000،11 عبر تخوم المدينة بعد أن قبل تماماً شروط شفارتسنبرج المتساهلة· وفي 5 أبريل أحاط قادة الحلفاء كولينكور علماً بأنهم لن يتعاملوا منذ الآن مع نابليون إلا إذا تنازل عن العرش دون قيد أو شرط وفي هذه الأثناء أرسلوا جنوداً لتطويق فونتينبلو لمنعه من الهرب·
وخفّف إسكندر من وطأة هذه الإجراءات القاسية بأن حمى باريس من السلب والنهب، كما قام بزيارات وديّة لكل من ماري لويز، وجوزفين، وهورتنس Hortense· لقد كان الروسي هو الأكثر تحضّراً من بين الفاتحين· لقد حثَّ زملاءه على أن يوقِّعوا معه معاهدة فونتينبلو التي تقدم لنابليون جزيرة في البحر المتوسط كسجن فسيح ينعم فيه بسماء إيطالي مشمس ودخل يأتيه من فرنسا· وفيمايلي النص الأساسي لهذه الاتفاقية:
صاحب الجلالة الإمبراطور نابليون من ناحية وأصحاب الجلالة إمبراطور النمسا·· وإمبراطور كل روسيا، وملك بروسيا يتعهدون بالأصالة عن أنفسهم وكل حلفائهم··
مادة (1): يتخلَّى صاحب الجلالة الامبراطور نابليون بالأصالة عن نفسه وأخلافه وذريته وكل أفراد أسرته عن كل حقوق السيادة في الإمبراطورية الفرنسية·· وفي كل المناطق الأخرى·
مادة (2): يحتفظ صاحبا الجلالة: الإمبراطور نابليون والإمبراطورة ماري لويز بألقابهما ورتبهما طوال فترة حياتيهما· ويحتفظ أيضاً كل من: أم الأمبراطور وإخوته وأخواته وأبناء إخوته وأبناء أخواته وبنات إخوته وبنات أخواته - أينما حلّوا بألقابهم الملكية·
مادة (3): جزيرة إلبا Elba التي اختارها صاحب الجلالة الإمبراطور نابليون كمقر ستبقى خلال حياته ولاية منفصلة يتملكها ويكون له فيها حق السيادة الكاملة، وهي ملك له·
وعلاوة على ذلك سيقدّم للإمبراطور نابليون عائد سنوي مقداره 000،000،2 فرنك كمِلْك خالص له من الخزانة الفرنسية يحوّل منها 000،000،1 للامبراطورة(33)· (المفهوم أن الحلفاء سيدفعون هذا المبلغ مع إضافته إلى ديون فرنسا)·
ووقع نابليون هذا الاتفاق في 31 أبريل كما وقع تنازله الأول عن العرش ومن ثمّ وقّعه الحلفاء· لقد كان نابليون يتطلع إلى كورسيكا لتكون منفى له لكنه علم أنه لن يُسمح له بذلك لأن كورسيكا حاضنة للثورة (مهيّأة لها)، فكانت إلبا Elba هي اختياره الثاني(43)· ولم يُسمح لماري لويز باصطحابه إلى إلبا، وكانت قد حاولت اللحاق به في فونتينبلو، لكن الحلفاء حالوا بينها وبين رغبتها كما أن نابليون - بدوره - لم يشجّعها على القدوم إليه(53)· وفي 72 أبريل غادرت مع ابنها رامبول Rambouillet قاصدة فينا، وكان هذا على غير رغبتها·
وربما يكون نابليون قد أَثْناها عن القدومِ إليه لاعتزامه الانتحار· لقد لاحظنا فيما سبق أن الدكتور يفا Yvan قد أعطاه قنينة سُم عند عودته من روسيا، وفي ليلة 21-31 أبريل ابتلع محتويات القنينة، ويبدو أن السّم كان قد فقد مفعوله فعانى نابليون لكنه شفي واعتراه الخجل كثيراً لهذا، فراح يبرر استمرار وجوده على قيد الحياة بأن اقترح على نفسه كتابه سيرته الذاتية التي تقدم القصة من وجهة نظره والتي تحتفي بأعمال الشجعان الذين قاتلوا معه Mes braves(63)·
وفي 61 أبريل كتب وداعاً لجوزفين: لا تنسِ هذا الذي لم ينسَكِ ولن ينساكِ أبداً(73) وماتت جوزفين بعد ذلك بشهر (92 مايو)، وفي 91 أبريل ودّع خادمه الخصوصي كونستانت (قسطنطين) وحارسه الشخصي روستا Roustam (النص مملوكة Mameluke) وفي 02 مايو ودّع جنود حرسه القديم الذين كانوا قد بقوا معه إلى النهاية:
أيها الجنود وداعاً، فطوال عشرين عاماً كنا فيها معاً كان تصرفكم مثالياً محققاً لكل رغباتي· لقد كنت أجدكم دوماً على طريق العظمة·· فبكم وبالرجال الشجعان الذين لا زالوا مخلصين كان يمكنني أن أقود حرباً أهلية لكن فرنسا ساعتها لن تكون سعيدة· إذن كونوا مخلصين لملككم الجديد، وكونوا مُطيعين لقادتكم الجُدد ولا تتخلوا عن وطنكم المحبوب·
لا تندبوا حظِّي، فسأكون سعيداً إذا علمت أنكم سعداء· ربما مِتُّ·· لكنني إن كنت قد رضيت بالحياة فليس إلاّ لاستجلاء مزيد من عظمتكم· سأكتب عن الأمور العظيمة التي حققناها·
لا أستطيع أن أعانقكم واحداً واحداً، لكنني سأعانق جنرالكم تعالَ يا جنرالي لأضمك إلى قلبي· أحضر لي العُقاب (النسر) لأعانقه أيضاً (النسر هو شعار الحرس)· آه يا عقابي (نسري) العزيز، ربما تجد هذه القُبلة التي أقدمها لك - صداها لدى الأجيال القادمة· وداعاً يا أولادي، سيتمنى لكم قلبي دوماً أحسن الأماني· لا تنسوني!(83)·
واختار أربعمائة من الحرس ليصحبوه إلى جزيرة إلبا· ودخل العربة مع الجنرال بيرتران Bertrand الذي سيظل معه إلى النهاية وصحبه أربعة من ضباط الحلفاء للتأكد من غرضه - روسي وبروسي ونمساوي وإنجليزي، كما صحبته حامية فرنسية صغيرة لحمايته(93)· لقد كان في حاجة إلى حماية في أثناء مروره في بروفنس Provence حيث كان السكان كاثوليكا متعصبين كما كانوا موالين للملكية على نحوٍ ما فراحوا يوجهون له الإهانة في أثناء مروره· وفي أورجون Orgon بالقرب من آرل Arles رأي تمثاله مشنوقاً، وهدّدته الجماهير، وأمرته أن يقول عاش الملك فامتثل للأمر تماماً كما سبق للثوار أن أجبروا لويس السادس عشر على الهتاف للثورة· وبعد ذلك تنكَّر بارتدائه حلّه رسمية وعباءة قدمهما له الضباط النمساويون والروس· وارتفعت روحه المعنوية في 62 أبريل عندما وجد أخته بولين Pauline في انتظاره في لي لوس Le Lus· لقد تركت الريفيرا الفرنسية وتخلت عن دعوة إلى روما، ومكثت في بيت ريفي صغير وكتبت إلى فيليس باكيوشي Felice Bacciocchi إن الإمبراطور سرعان ما سيمر من هنا وأنا راغبة في رؤيته لأعبر له عن عواطفي، فأنا لم أكن أحبه كامبراطور وإنما لأنه أخي(04) ورفضت أن تعانقه وهو متنكر، فأزاح عن نفسه ملابس التنكر وراح ينعم بإخلاصها ووفائها طوال أربع ساعات·
وفي 72 من الشهر نفسه واصل الطريق إلى فريجو Frejus وهناك (في 82 أبريل) حيّته السفينة البريطانية (أندونتد Undaunted - ومعناها الشجاع أو الجسور) بإطلاق إحدى وعشرين طلقة من مدافعها، وأبحر قاصداً إلبا، وحاول طوال الأشهر التسعة التالية أن يتعامل مع هذا السلام الذي اتسمت شروطه بالسذاجة·


صفحة رقم : 14760