قصة الحضارة -> عصر نابليون -> خاتمة المطاف -> إلى واترلو -> إلبا

3- إلبـا


وصل نابليون إلى بُورْتو فِرْياو في 3 مايو 4181· ونزل إلى البر في صباح اليوم التالي فاستقبله سكان المدينة بترحيب يفوق الوصف ظناً منهم أنه أحضر معه ملايين الفرنكات لينفقها (في جزيرتهم) وكانوا قبل ثمانية أيام قد شنقوا تمثالاً له باعتباره رجلا مولعا بالحرب إلى حدّ الجنون(6)· لقد حَفّوه حارسين له إلى قصر الحاكم الذي أصبح لابد، الآن، يكتسي بالأبهة الإمبراطورية· وطوال التسعة شهور التالية كان على نابليون أن يكون إمبراطورا على جزيرة مساحتها 68 ميلا وسكانها 000،21 نفس· وأحاط نفسه بكل مظاهر العظمة - ملابس فاخرة وحرس ملكي وحجّاب وياورات وخدم وحشم وموسيقييين ومائة حصان وسبع وعشرين عربة، وربما كان هذا في جانب منه لإيمانه بأن المظاهر هي لعبة الحكم(7)· وفي 62 مايو أتى 004 عضو من أعضاء الحرس القديم لخدمته كنواة لجيش مصغّر· وأتى نحو مائتي متطوع من فرنسا كما أتاه متطوعون آخرون من إيطاليا وكورسيكا فسرعان ما أصبح لديه نحو 0061 مقاتل مستعدين للحرب في مواجهة أية محاولة لايذاء إمبراطورهم المحبوب رغم كراهية آخرين له· وليتمتع بمزيد من المناعة حصّن الميناء ونظّم أسطولا - سفينة كبيرة بصاريين (السفينة إنكونستانت Inconstant) وأربع سفن صغار، وكانت كلها مسلّحة·
كيف أمكنه تمويل كل ذلك، وغير ذلك من الأعمال العامة والمشروعات التي حسّن بها أحوال الجزيرة؟ لقد كانت معاهدة فونتينبلو قد ضمنت له مبلغاً سنوياً يأتيه من فرنسا، لكن ذلك لم يحدث، ولم يتلق المبلغ(8)· لقد كان نابليون على أية حال قد أحضر معه 000،004،3 فرنك ذهباً وفضة، وجمع 000،004 ليرة سنوياً من الضرائب وعوائد أخرى· وبعد انقضاء نصف عام راح يفكر في كيفية مواجهة هذه النفقات إذا مكث في الجزيرة أكثر من عام·
وظل لفترة سعيداً بشكل معقول، واضعاً في اعتباره أساليبه الموسّعة (المقصود خططه طويلة المدى)، وفي 9 مايو كتب إلى ماري لويز: وصلت هنا منذ خمسة عشر يوماً· لقد اتخذت لي محلَّ إقامة جميلا·· صحتي على ما يُرام· المنطقة (الجزيرة)· مقبولة· لا ينقصني سوى أخبار منك وتأكيدات بأنك على خير ما يرام·· إلى اللقاء يا حبيبتي· قبلة لابني(9)·
وكان ابن آخر مع أمه الكونتيسة المخلصة فالفسكا Walewska من بين أوَّل من زاره، وظن البحارة والمواطنون أنها الإمبراطورة، فرحبوا بها كما يجري الترحيب بإمبراطورة· وانزعج نابليون فقد كان يأمل أن تلحق به زوجته (ماري لويز) وابنه ملك روما، فاستراح ليوم أو يومين بين ذراعي فالفسكا(01) ثم طردها برفق متعللِّلا بالأحوال· وربما تكون ماري لويز قد سمعت إشاعات مبالغاً فيها عمّا جرى في هذين اليومين(11)·
وفي أكتوبر أتت أمه وأخته بولين للإقامة معه· وقدّمت له بولين جواهرها والتمست عنده الأعذار لما ظهر من مورا Muratمن عدم ولاء· واهتمت به أمه اهتماما مفعماً بالعاطفة، وواسته وقدَّمت له كل مدّخراتها· وظلت أمه وأخته معه رغم افتقادهما حيوية الحياة الإيطالية·
ويمكننا أن نتصّور كم كان يعاني بعد الشهور القليلة الأولى من المجال الصغير للجزيرة، وضيقها عن إمكاناته الكبيرة وأحلامه العظيمة· وحاول أن يهرب من الملل بالانهماك في النشاط البدني، لكن ما كان يمضى يوم حتى تأتيه أخبار من البر الأوربي تزيده اضطرابا وتحول بينه وبين الاستقرار· لقد أخبره مينيفال Meneval الذي كان في خدمة ماري لويز في فينا عن المناقشات التي جرت في المؤتمر (مؤتمر فينا) بخصوص إبعاده عن جزيرة إلبا إلى مكان أبعد ضمانا لأمن أوربا(21) وأضاف قائلا له إن المؤتمر ربما ينتهي في 02 فبراير· وأخبره آخرون باستياء الجيش الفرنسي، ومخاوف الفلاّحين وهياج اليعاقبة وعودة نظم العبادة الكاثوليكية إلى قوتها الأولى· وفي فبراير 5181 أرسل له هوج مار Hugues Maret (دوق باسانو Duc de Bassano) رسالة حملها فلوري دي شابولو Fleruy de Chaboulon يؤكد له فيها كل هذه التقارير(31)·
واندهش لهذه التقارير التي أنعشت فيه الآمال بنهاية أكثر نبلاً من الموت بسبب الفراغ والعزلة، فأخبر أمه بنواياه وطلب منها النصح، فاعتراها القلق من أنها لو تركته الآن يذهب فلن تراه مرة أخرى أبدا، فقالت له: دعني أنعم بالأمومة لفترة وبعدها سأقول لك رأيي لكنها علمت أنه كان قد قررّ بالفعل أن يقوم بمغامرته الأخيرة· فقالت له اذهب يا ولدي إلى قَدَِرك (النص: اذهب لتنفيذ ما كتبه القدر لك(41)·
لقد شعر أنّ عليه أن يعمل بسرعة· فإن انقضى وقت قصير قد لا يكون لديه الوسائل التي يدفع منها لهؤلاء الفرنسيين البالغين ألفا الذين خدموه والذين يجب أن تستمر خدماتهم· إن الظروف قد تطورت بما يسمح له بمحاولة لاستعادة عرشه والدفاع عنه ليورّثه لابنه الجميل كأدونيس Adonis بعد تدريبه على فنون الحكم· لقد كان الحلفاء ينهون مؤتمرهم وبسبيل عودتهم إلى بلادهم مصحوبين بجنودهم، وربما يكونون قد أصبحوا مستعدين للاستجابة لدعوته للسلام فُرادى· لقد كانت لياليه لا تزال طويلة، وفي جنح الليل يمكن لأسطوله الصغير أن يُفلت من المراقبة ليكون - مرة أخرى - على الأرض الفرنسية·
لقد جهّز أموره بسرية قدر الإمكان، لكن من خلال تفكيره العميق ونظره الثاقب كما هو معتاد منه· لقد أمر الحرس الإمبراطوري وثمانمائة من رماة القنابل (المجموع 0011 مقاتل) أن يُعدّوا أنفسهم ليكونوا على رصيف الميناء في مساء 62 فبراير للقيام برحلة تستغرق عدة أيام إلى جهة غير محدّدة، ومع هذا فقد استنتجوا أنهم ذاهبون إلى فرنسا وأسعدهم هذا·
وفي مساء اليوم المحدد عانق أمه وأخته (اللتين كان عليهما أن تتجها حالا إلى أصدقاء في إيطاليا) وانضم إلى كتيبته الصغيرة وركبوا معه السفينة إنكونستانت والسفن الأربع الصغار وأبحروا بهدوء في جُنح الليل· ولم تكن الريح مواتية فكانت تهمد حينا فتترك أسطولهم بلا عون، وأحيانا كانت تقترب بهم إلى الشاطئ، واعتراهم القلق مخافة أن تتعرفهم السلطات ويتم إيقافهم فيتعرضون للسجن بشكل مخز· لقد ظلوا طوال ثلاثة أيام يبحرون شمالا ثم غربا متجاوزين جنوا والريفيرا الفرنسية· وفي أثناء الإبحار على هؤلاء الرجال - ممن يعرفون الكتابة - أن يستنسخوا مئات النسخ من بيان نابليون الذي سيُوَزَّع في فرنسا:
أيها الفرنسيون
لقد سمعتُ في منفاى تفجعّكم ودعاءكم· إنكم تتطلعون إلى الحكومة التي تختارونها، فالحكومة التي تختارونها هي وحدها الحكومة الشرعية· لقد عبرْتُ البحرَ، وإنني آتٍ لاسترداد حقوقي التي هي حقوقكم - بالنسبة إلى الجيش: إن ممتلكاتك ورتبك وعظمتك ومجدك، هي ممتلكات أبنائك ورتبهم وعظمتهم ومجدهم، وليس هناك للأبناء أعداء أشد وطأة من هؤلاء الأمراء الذين فرضهم الأجانب عليكم···· إن النصر سيُسِرع الخطى، والنسر (العقاب) والأعلام الوطنية ستتحلّق فوق كل أبراج الكنائس من برج كنيسة إلى برج كنيسة آخر، بل حتى على أبراج نوتردام Notredame· ستكونون أنتم محرّري وطنكم(51)·



صفحة رقم : 14763