قصة الحضارة -> عصر نابليون -> خاتمة المطاف -> إلى واترلو -> رحلة لا تصدق

4- رحلة لا تُصَدَّق


1- 02 مارس 5181


ظهر الأسطول الصغير الذي يحمل الإمبراطور وقَدَره أمام رأس أنتيب Cap d, Antibes في فجر أول مارس، وفي وسط النهار بدأ الجنود البالغ عددهم 0011 بالنزول إلى البر في جولف جوان Golfe Juan، وقفز بعضهم في المياه الضحلة وخاضوا إلى الساحل· وكان نابليون آخر من هبط، فأمر بإقامة معسكر مؤقت في مزرعة زيتون بين البحر والطريق من أنتيب إلى كان Cannes· وأرسل مجموعة صغيرة إلى كان لشراء خيول ومؤن على أن يدفعوا ثمنها نقدا إذ كان قد أحضر معه من إلبا 000،008 فرنك ذهبا· وأمر مجموعة أخرى أن تذهب إلى أنتيب لتحث حاميتها على الانضمام إليه، فعنَّف آمرُ الحامية مبعوثي نابليون وسجنهم ولم يحاول نابليون التوجه إليه لإطلاق سراح رجاله فقد كان قد قرر الاستيلاء على باريس دون أن يطلق طلقة واحدة·
لم يجد نابليون ترحيبا في أنتيب فلم يكن العابرون يبدون حماسا عندما كان يقال لهم إن الرجل الضئيل الحجم الذي يدرس الخرائط على منضدة في الهواء الطلق هو الإمبراطور· لقد كانت المنطقة قد أصابها الضُّر بسبب الحرب والتجنيد الإلزامي والحصار المزدوج (حصار بريطانيا للسواحل الفرنسية والحصار المضاد الذي فرضه نابليون على البضائع البريطانية) وبالتالي لم يكن لدى أهل أنتيب شهية للمزيد من هذا· وأتى محافظ أنتيب (رئيس بلديتها) ليتفحّص أحوال هؤلاء الغزاة (نابليون ورجاله) وقال لنابليون: لقد كنا قد بدأنا نشعر بالسعادة والسكون· إنك ستفسد كلّ شيء· وقد تذكر نابليون بعد ذلك وهو في سانت هيلانا هذا القول، فذكر لجورجو Gourgoud: لن أقول لك كيف أثّرت فيّ هذه الملاحظة ولا الألم الذي سببته لي(61)· وأكد له مراسل (جاسوس) عابر أن كل الجيش والعوام يقفون إلى جانبه - على نحو أوآخر - من باريس إلى كان، لكن أهل بروفنس Provence يقفون ضدّه·
وكان نابليون يعرف ذلك جيدا فتذكر تجاربه المريرة في أورجون Orgon قبل ذلك بأحد عشر شهرا، والآن فإن هذه الذكريات حدّدت طريقه إلى باريس· لقد اختار أن يْسلك الطريق الجبلي من كان إلى جراس Grasse، ودِنْي Digne وجرينوبل Grenoble وليون وكانت المنطقة إلى الجنوب من جرينوبل غير كثيفة السكان كما كانت الحاميات فيها قليلة العدد، وكانت مناطق معروفة بعدم موالاتها للبوربون· وكانت الجبال التي سيتعين مرورهم فوقها لازالت مغطاة بالجليد، وقد يتذمر من ذلك حرسه القديم ورماة القنابل، لكنهم لن يتخلّوا عنه·
وهكذا، في نحو منتصف ليلة الأول من مارس انطلق بجنوده البالغين 0011 في الطريق إلى كان· وكان نحو ستين منهم قد تمكنوا من شراء خيول، لكن كان عليهم أن يحفظوا المسافة والأُلفة بينهم وبين الباقين، ولهذا ساروا إلى جانب الركائب الحاملة للأمتعة· وعادة ما كان نابليون يركب عربة، وفي وسط الركب كان هناك حرس يحرس ذهب نابليون، كما كان هناك عدد من الكورسيكيين الصارمين يحمون المؤخرة(71)·
وفي جراس Grasse تركوا مدفعهم لفرط ضخامته لأنه سيسبب مشكلة في طرق جبلية يجلّلها الجليد· وقطع المحاربون القدماء الذين اعتادوا كسب المعارك بسيقانهم (المقصود بسرعة حركتهم) مسافات طيبة، وفي الخامس من مارس وصل الرَّكب إلى جاب Gap بعد أن كان غالبهم قد قطع 051 ميلاً في أربعة أيام· وعند لامور La Mure (02 ميلا إلى الجنوب من جرينوبل) واجهوا أوّل تحٍدّ خطير·
لقد كان قائد القسم الخامس في الجيش المتمركز في جرينوبل قد تلقّى أوامر من باريس بالقبض على نابليون فأرسل كتيبة من 005 جندي لوقف المتمردين الذين اقتربوا· وعندما اقتربت الكتيبة المعترضة وتقارب أفرادها أمر نابليون رجاله بإلقاء أسلحتهم (تنحيتها جانبا) وتقدم هو إلى الصدراة وترجّل متقدما إلى الجنود (المهاجمين) واقترب منهم، وتوقف إزاءهم وخاطبهم: يا جنود القسم الخامس، أنا إمبراطوركم، ألا تعرفونني؟! وكشف عن معطفه العسكري ثم قال: إن كان بينكم جندي يريد أن يقتل إمبراطوره، فها أنا ذا فخفض غالبهم أسلحتهم (نحوُّها جانبا) وصاحوا عاش الإمبراطور وتفرقت الكتيبة وتجمع جنودها حول نابليون سعداء محاولين لمسه، فتحدث إليهم نابليون بعاطفة جيَّاشة وعاد إلى جيشه الصغير، وهناك قال إن الأمور قد استقرّت وسنصبح في غضون عشرة أيام في التوليري(81)·
وفي تلك الليلة اقتربوا من جرينوبل فتجمهر مئات الفلاحين والبروليتاريا للترحيب بنابليون، وعندما وجدوا إحدى بوابات المدينة مغلقة كسروها ليتمكن جيشه الصغير من العبور، وترك رجاله المرهقين لينالوا قسطا طيبا من الراحة حتى ظُهر اليوم التالي، وذهب هو نفسه إلى فندق تروا دوفين Trois Dauphins (الدلافين الثلاثة)، فرحب به رئيس المجلس البلدي ومسؤولو الإدارة، بل وجاء القادة العسكريون لتحيته· وفي الصباح أقبلت إليه وفود أكبر طالبة منه أن يتعهَّد بحكومة دستورية· لقد كان يعلم أنّ جرينوبل كانت في طليعة الثورة وأنها لم تفقد أبداً تعطّشها للحرية فحدّثهم حديث من ترك أفكار تركز السلطة في يد الحاكم (الحكم الاستبدادي) ووعدهم بالإصلاح· لقد اعترف أنه كان أسرف في استخدام السلطة وأنه كان قد سمح للحرب التي كانت دفاعية في الأساس لتصبح موجّهة للغزو فاستنزفت فرنسا تقريبا، ووعد أن يقدم لفرنسا حكومة نيابية على وفق مبادئ 9871 و 2971· وقال لهم إن أعزّ أمانيه الآن هو أن يُعد ابنه ليكون زعيما ليبراليا جديرا بحكم فرنسا المتنوّرة(91)·
وبعد ظهر هذا اليوم (8 مارس) أمر أتباعه بمواصلة مسيرتهم لأنه سيبقى يوما آخر في جرينوبل لإصدار توجيهات للمدن التي قبلت قيادته لكنه وعد جماعته بالانضمام إليهم ثانية في الوقت المناسب لمساعدتهم في تحقيق انتصارات سلمية· وفي العاشر من مارس انضم إليهم وقادهم إلى ليون·
وقبيل هذا الوقت، وصلت أخبار مغامرة نابليون إلى لويس الثامن عشر، فلم ينزعج في البداية، وشعر بالثقة في أن هذا المتَّهم (نابليون) سُرعان ما سيتم إيقافه· لكن عندما استمرت مسيرة نابليون واقتربت من جرينوبل - المعروفة بعدائها للبوربون - أصدر (أي لويس) إعلانا في السابع من مارس يحُضُّ فيه كل مواطن على المساعدة في القبض على هذا المجرم المزعج (نابليون) لإعدامه بعد محاكمة عسكرية، كما صدر مرسوم بإيقاع العقاب نفسه على كل من ساعده· واستدعى الملك نَيْ Ney من محل تقاعده وطلب منه أن يقود قوّة عسكرية ضد نابليون، فوافق، لكن قصّة تعهّده بأن يأتي بنابليون في قفص حديدي، ربما كانت قصة موضوعه(02)· لقد أسرع نَيْ Ney جنوبا، وتولّى قيادة كتيبة عسكرية في بيسانسو Besancon واستدعى الجنرال دي بورمون de Bourmont والجنرال ليكورب Lecourbe للانضمام إليه بقواتهما عند لون - لي - سونييه Lons - Le - Saunier (شمال غرب جنيف)، وتوجه للستة آلاف مقاتل الذين جُمّعوا على هذا النحو بكلام حماسي شديد لإلهاب شجاعتهم· لقد قال لهم: حسنا· هذا الرجل القادم من إلبا حاول تنفيذ مشروعه الغبي، وسيكون هذا آخر عمل له(12) ولم يتجاوب معه رجاله إلا قليلا·
وفي ذلك اليوم (01 مارس) كانت ليون ترحِّب بنابليون، فقد كان الصنّاع وأصحاب المصانع هناك قد انتعشت أحوالهم في ظل الحصار القاري الذي فتح كل أوربا (ما عدا إنجلترا) أمام منتجات ليون ولم يكن أهل ليون يحبون المهاجرين (الذين تركوا فرنسا إِثْر أحداث الثورة الفرنسية) الذين عادوا الآن إلى المدينة وراحوا يتصرفون كما لو أن الثورة الفرنسية لم تقم في وقت من الأوقات أو بتعبير آخر راحوا يتصرفون كما كانوا يتصرفون قبل الثورة· وفي وسط هذا الاستياء راح أصحاب الأعمال - لأسباب خاصة بهم - يرحبون بنابليون، وكان كثيرون من أهل المدينة يعاقبة متحمِّسين كما ظهرت الآن على السطح تيارات لم تكن ظاهرة راحت ترحب بنابليون على أمل أن يعود بهم إلى عام 9871· وكان الفلاحون في المناطق الداخلية قلقين بشأن أراضيهم، وراحوا يتطلعون إلى نابليون كمخلّص سينهي لصالحهم معركة استرداد الأراضي المؤمّمة أو الأراضي التي وزعتها الثورة من ممتلكات الكنيسة، وكان جنود حامية ليون توّاقين لوضع عقدة الشريط الأحمر على حرابهم·
لكل هذا فتحت ليون بواباتها، فهرب الملكيون وابتسم البورجوازيون وابتهج العمال والجنود، بينما كان نابليون يقود كتيبته في المدينة· وأقبل مسئولو البلدية والقضاة بل وبعض القادة العسكريين ليقدموا ولاءهم له، فأجابهم بأن وعدهم بحكومة دستورية وبانتهاج سياسة السَّلام· وانضمت الحامية كلها - فيما عدا الضباط النبلاء - إلى جيشه المتضخّم (الذي راح عدده يزداد بالتدريج) وهو يواصل مسيرته إلى باريس· لقد أصبح عدد جيشه الآن 000،21 كلهم مستعد للحرب بناء على أوامره، لكنه كان لا يزال عاقداً الأمل على إحراز النصر دون إطلاق النار· وكتب إلى ماري لويز واعداً إياها أن يكون في باريس في 02 مارس (الذكرى السنوية الثالثة لميلاد ابنه) وقال لها إنها ستُسعده سعادة فوق الحد إن استطاعت اللحاق به هناك حالا· وكتب إلى نَيْ Ney ملاحظات ودودة كما لو أن صداقتهما لم تشبها شائبة قط، ودعاه للالتقاء به في شالون Chalons ووعده أن يلقاه كما لقيه بعد معركة بوروديو Borodio، أي كأمير موسكو Prince of Moskva وفي 41 مارس دعا نَيْ Ney (وكان لايزال في لون - لي - سونييه Lons - Le - Saunier) جنوده جميعا وقرأ عليهم الإعلان الذي كلفه حياته بعد ذلك: أيها الجنود إن قضية البوربون قضية خاسرة وإلى الأبد· فالأسرة الحاكمة الشرعية لفرنسا على وشك أن تعتلي العرش· إن الإمبراطور نابليون هو حاكمنا وهو الذي سيحكم بلدنا العظيم من الآن فصاعدا فهزّ الجنود الأرض بصيحاتهم وهتافهم المتكرر عاش الإمبراطور عاش المارشال نَيْ!(22) وعرض عليهم أن يقودهم للانضمام إلى قوات نابليون، فوافقوا، ووجدهم نابليون في أوكزير Auxerre في 71 مارس· وفي 81 مارس استقبل نابليون المارشال ني Ney وتجدّدت صداقتهما وبعدها لم يجسر أحد على اعتراض سبيل الزحف إلى باريس·
وفي مساء 71 مارس اجتمع الملك لويس 81 بالمجلسين في قصر البوربون، مرتديا زيه الملكي كاملا وأعلن عزمه على مقاومة نابليون· قال: لقد عملتُ لسعادة شعبي، أيمكن - وأنا في الستين من عمري - أن أجد نهاية أفضل من الموت دفاعا عنه؟ وأمر بتعبئة كل القوى الملكية، وقد استجاب له بعض ممثلي هذه القوى وكان معظمهم - بشكل أساسي - من جنود حرس أسرته، أما الجشي النظامي فكان متوانياً بطيء الاستجابة، ولم يظهر قائد قدير يعرض قيادته لهذا الجيش أو بث الحماس فيه· وشرعَ الملكيون والموالون للملكية في الهجرة (تَرْك فرنسا) مرة أخرى·
وغصّ صالون مدام دي سيتل بالإشاعات وراحت هي أيضا تفكّر في الهرب· وفي 91 مارس نشرت جريدة (جورنال دي ديبات Journal des de bats) (أي: جريدة المناقشات) مقالا بقلم عشيق مدام دي ستيل غير الدائم - بنيامين كونستانت يعيد فيه تأييده للويس الثامن عشر والحكومة الدستورية، ثم اختفى في مساء اليوم نفسه (أي أخفى نفسه وسترها عن العيون)·
أما لويس الثامن عشر نفسه الذي كان دوما كارها للانتقال فقد أجّل رحيله حتى وصلته الأخبار في 91 مارس بأن نابليون وصل إلى فونتينبلو، ومن المتوقع أن يصل باريس في اليوم التالي· وفي الساعة الحادية عشر مساء ركب لويس 81 مع أسرته خارجاً من التوليري قاصدا ليل Lille تلك المدينة الموالية للملكية بشدّة لكن الملك - بلاشك - فكر في أخ له انطلق في رحلة مماثلة في سنة 1971 فأعاده الشعب سجينا (إشارة إلى محاولة الهرب التي قام بها لويس 61)· وفي 02 مارس قام بعض البونابارتييّن المتحمّسين - بعد أن علموا أن قصر التوليري قد خلا من الملك وحرسه - بدخول القصر بفرح غير منضبط، وأعدوا الغرف الملكية لاستقبال نابليون· وكان جيش نابليون كلما تقدم لهدفه ازداد عدده· وبقي نابليون نفسه في فونتينبلو حتى الثانية ليلا· يُملي الرسائل ويصدر التعليمات، ومن المفترض أنه تجوّل بشغف بالقرب من القصر الذي شهد كثيرا من أحداث التاريخ بما في ذلك تنازله عن العرش للمرة الأولى، ذلك التنازل الذي حان وقت إلغائه والثأر ممن كانوا سببا فيه· ووصل باريس في نحو الساعة التاسعة صباحا بصحبة بيرتران Berlrand وكولينكور Caulaincourt، فساروا ولا يكاد يتعرفهم أحد حتى وصلوا التوليري، وهناك كان جمع من الأقارب والأصدقاء حيّوه بعاطفة جيّاشة وحملوه ليرقوا به الدرجات، وراح ينتهي من عناق أحدهم حتى يعانق الآخر حتى جلس أمامهم منهكا مذهولا لكنه كان سعيدا إلى درجة أن الدموع ذرفت من عينيه· وأتت هورتنس Hortense فوبّخها لأنها قبلت تودّد إسكندر إليها، فدافعت عن نفسها، فرقّ لها وأخذها بين ذراعيه وقال: أنا أب طيب·· أنت تعرفين هذا··· وأنتِ حضرت موتَ جوزفين البائسة· لقد آلم قلبي موتها رغم أني كنت أعاني من أمور سيئة كثيرة(32)·
وهكذا انتهت هذه الرحلة التي تفوق الخيال: 027 ميلا من كان إلى باريس في عشرين يوما، وأنجزها غالب الجنود والمرافقين سيرا على الأقدام، وأوفى نابليون وعده بأن تتم إعادة فتح فرنسا دون إطلاق نار· والآن كونّ حكومة جديدة لإعادة السلام والوحدة في البلاد واستعد لمواجهة 000،005 جندي تجمعوا من روسيا وبروسيا والنمسا وإنجلترا ليعيدوه إلى جزيرته الصغيرة أو إلى جزيرة أخرى أبعد أو إطلاق النار عليه·
كل نهاية هي بداية، ففي 02 مارس بدأ نابليون فترة حكم المائة يوم Hundred Days منها·



صفحة رقم : 14764