قصة الحضارة -> عصر نابليون -> الثورة الفرنسية -> حكومة الإدارة -> نابليون الشاب
2- نابليون الشاب
9671 - 5971
قال اللورد أكتون Acton : "لا يمكن أن تكون هناك تدريبات عقلية يمكن أن تكون أكثر فعالية ونشاطا من ملاحظة كيف يعمل عقل نابليون المعروف تماما بأنه أقدر رجل في تاريخ البشرية"(6) لكن من الآن يمكن أن يشعر أنه عرف بصدق وبشكل كامل رجلا قدمه لنا مئات المؤرخين المثقفين كبطل ناضل لتوحيد أوربا وسيادة القانون بها، ومئات المؤرخين المثقفين قدموه أيضا كغول Ogre استنزف دماء فرنسا وخرب أوربا ونهبها ليشبع نهمه للسلطة والحرب؟ من منا يستطيع الزعم بالإحاطة بكل أبعاد نابليون في ظل هذا السؤال الآنف ذكره رغم أن 000·002 كتاب ونشرة قد صدرت عنه· "فالثورة الفرنسية" كما يقول نيتشه Nietzsche " جعلت نابليون ممكنا بمعنى أنها جعلت من الممكن ظهور نابليون فهو تسويغ أو تبرير لها"(7)·· وقد استغرق نابليون في التأمل وهو واقف أمام قبر روسو Rousseau وتمتم قائلا: "ربما كانت الأمور على نحو أفضل لو لم يولد كلانا أبداً"(8)·
ولد نابليون في أجاسيو Ajaccio في 51 أغسطس سنة 9671، قبل أن تبيع جنوا Genoa كورسيكا لفرنسا بخمسة عشر شهرا، وقبل أن تؤكد فرنسا تبعيتها (كورسيكا) لها بإخماد ثورة باولي Paoli · ولمثل هذه الأمور التافهة يلتفت التاريخ· ولقد كتب نابليون بعد بعشرين عاما لباولى قائلا:" لقد ولدت عندما كان وطني يموت· ثلاثون ألف فرنسي يتقيأون disgorged على شواطئنا، يغرقون تاج الحرية في بحر من الدم· لقد كان هذا منظراً كريها أزعج عيني في مرحلة الطفولة"(9)·
وذكر ليفي Livy أن "كورسيكا جزيرة وعرة جبلية معظمها غير مأهول بالسكان· وأهلها يشبهون طبيعة بلادهم فهم متمردون كالوحوش لا يحكمون"(01) لكن احتكاكها بإيطاليا قد هذب نوعاً ما من هذه الوحشية، ولكن جدب الأرض والحياة القاسية، البدائية غالبا والعداوات الأسرية الشديدة والدفاع الضاري ضد الغزاة، كل ذلك جعل أهل كورسيكا على أيام باولي Paoli صالحين لحرب العصابات أكثر من صلاحيتهم للتنازلات التي يتحتم على ذوي الطباع العنيفة أن يقوموا بها للخضوع للنظام وهو أمر مطلوب لتشكيل الحضارة· لقد كانت الحياة المدنية تتطور في عاصمة كورسيكا، لكن خلال معظم الفترة التي كانت فيها ليتيزيا رامولينو بونابرت Letizia Ramolino Buonaparte (أم نابليون) تحمل بونابرت، كانت تتبع زوجها من معسكر إلى معسكر مع باولي Paoli ، وعاشت في خيام أو أكواخ في الجبال وتنفست هواء المعركة· ويبدو أن طفلها (نابليون) يتذكر كل ذلك ويسري فيه مسرى الدم فلم يكن لديه بعد ذلك مقدار من السعادة كتلك التي يحس بها وهو يخوض غمار الحروب· لقد ظل إلى النهاية كورسيكيا· وفي كل شيء كان إيطاليا فيما عدا الفترة الزمنية والتعليم -، إيطالياً سلَّمه عصر النهضة لكورسيكا، فعندما استولى على إيطاليا وضمها لفرنسا استقبله الفرنسيون بترحيب باعتباره إيطاليا غزا فرنسا·
وكان أبوه كارلو بونابرت Carlo Buonaparte يمكنه أن يرجع سلالة نسبه إلى أفراد كان لهم وجود في التاريخ الإيطالي: من سلالة نشيطة كانت تعيش في غالبها في تسكانيا Tuscany ثم انتقلت إلى جنوا Genoa ثم هاجرت في القرن السادس عشر إلى كورسيكا، واحتفظت الأسرة بسلالة نسب نبيلة اعترفت بها الحكومة الفرنسية، وعلى أية حال، فعندما أصبحت النبالة في عهد الثورة الفرنسية تمثل خطوة نحو المقصلة طرح نابليون ذكر هذا النسب (غير وضع زهر النرد the de)· وكان كارلو (والد نابليون) ذا موهبة في القدرة على التكيف، فقد حارب في جانب باولي Paoli من أجل تحرير كروسيكا فلما فشلت المحاولة سالم الفرنسيين وعمل في الإدارة الفرنسية الكورسيكية وأمن دخول اثنين من أبنائه في الأكاديميات الفرنسية وكان من بين النواب الذين أرسلهم نواب كورسيكا إلى مجلس طبقات الأمة (الذي دعا إليه الملك لويس السادس عشر) وقد أخـذ نابليون عن أبيه عينيه الرماديتين وربما أخذ عنه أيضا سرطان المعده المميت"(11)·
وقد أخذ عن أمه ما هو أكثر "إنني مدين بنجاحاتي وبكل عمل طيب قمت به لأمي ومبادئها الممتازة· إنني لا أتردد في التأكيد على أن مستقبل الطفل يعتمد على أمه"(21)·
وقد كان نابليون يشبه أمه في طاقتها ونشاطها وشجاعتها وثباتها الشديد (المجنون mad ) وحتى في إخلاصها لآل بونابرت كثيري الذرية· ولدت أم نابليون ليتيزيا رامولينو سنة 0571 وتزوجت وهي في الرابعة عشرة من عمرها وأصبحت أرملة وهي في الخامسة والثلاثين وأنجبت ثلاثة عشر مولودا في الفترة من 4671 إلى 4871 وشهدت موت خمسة من أولادها وهم في سن الطفولة ورفعت الباقين بعزم صارم وسعدت بنجاحهم وعانت بسقوطهم·
وكان نابليون هو ابنها الرابع، والثاني بالنسبة لمن بقوا على قيد الحياة من أبنائها· أما الابن الأكبر فهو جوزيف بونابرت (8671 - 4481) فكان لطيف المعشر مغرقا في الشهوات (أبيقوريا) ونصب ملكا على نابلي ثم على إسبانيا، وكان يأمل أن يكون هو الإمبراطور الثاني لفرنسا، وبعد نابليون في ترتيب أفراد أسرته يأتي لوسيا Lucien (5771 - 0481) الذي ساعده في القبض على زمام الحكومة الفرنسية في سنة 9971، وأصبح عدوه اللدود، لكنه وقف بجانبه في المائة يوم Hundred days المتسمة بالعبث البطولي heroic futlity ، ثم تأتي ماريا أنا إليزا Maria Anna Elisa التي أصبحت دوقة لتوسكانيا وكانت معتزة بنفسها ومقتدرة وعارضت أخاها في سنة 3181 وسبقته إلـى الموت، ثم يأتي مـن أفراد أسرته لويس (8771 - 6481) الذي تزوج الرقيقة هورتينز دى بوهارنيه Hortense de Beauharnais فقد أصبح ملكا على هولندا وقد أنجب نابليون الثالث· وأخته الأخرى هي بولين Pauline (0871 - 5281) الجميلة الخليعة التي تزوجت الأمير كاميلو بورجيز Camillo Porghese وقد حكى نابليون قائلا: "إنني وبولين كنا الأثيرين عند أمي هي لأنها كانت ألطف أخواتي وأظرفهن، وأنا لأن إحساسها الفطري جعلها تعتقد أنني سأكون مؤسس عظمة الأسرة"(31)· أما أخته ماريا كارولينا Maria Carolina (2871 - 9381) فتزوجت، جوشيم مورا Joachim Murat وأصبحت أميرة نابلي، وأخيرا Jérome (4871 - 0681) الذي أسس الأسرة البونابارتية في بلتيمور Baltimore وأصبح ملكا لوستفاليا Westphalia ·
وفي سنة 9771 حصل كارلو(والد نابليون) من الحكومة الفرنسية على امتياز إرسال ابنه نابليون إلى الأكاديمية (المدرسة) العسكرية في برين Brienne التي تبعد نحو تسعين ميلا جنوب شرق باريس· وكان هذا حدثا أساسيا في حياة الفتى، لأنه ربط مصيره بالمجال العسكري، كما جعله حتى نهاية حياته تقريبا يفكر في الحياة والقضاء والقدر بمفاهيم الحرب ومصطلحاتها· لقد أصبحت برين بالنسبة لابن العاشرة محنة أثرت في تكوينه فقد ابتعد عن داره بعيدا وعاش في بيئة غريبة وصارمة· ولم يستطع الطلبة الآخرون أن يغفروا له كبرياءه وحدة مزاجه اللذين يبدوان غير متجانسين مع نبالته الغامضة (غير الواضحة بالنسبة لهم)· وقد عبر نابليون عن ذلك قائلا: "لقد عانيت كثيرا جدا من سخرية زملاء الدراسة الذين كانوا يعتبرونني غريبا"· وانسحب الفتى الذي لم يأتلف مع أقرانه وتقوقع على نفسه واستغرق في الدراسة والكتب والأحلام· وكان ميله للعزلة عميقا، فقد كان قليل الكلام لا يثق في أحد وجعل نفسه بعيدا عن عالم بدا قد صمم لتعذيبه· ومع هذا فقد كان هناك استثناء واحد ذلك أنه صادق لويس أنطوان فيفيليت دى بورين Louis Antoine Fauvelet de Bourrienne الذي ولد أيضا في سنة 9671 وقد تحمس كل منهما للآخر ودافع عنه، وحارب كل منهما الآخر وبعد انفصال طال بينهما أصبح سكرتيرا له في 7971 وظل قريبا منه حتى سنة 5081·
ومكنت العزلة هذا الشاب الكورسيكي من التفوق في دراسته التي أشبعت عطشه للسمو والتفوق· لقد نفر من دراسة اللاتينية ومن كل الدراسات الميتة فلم يكن ثمة فائدة له من دراسة فضائل فيرجيل virgilian graces ومحكماته الصامتة· وتلقى دراسات قليلة في الأدب أو الفن لأن المعلمين (في هذه المدرسة الحربية) غير ملمين كثيرا بهذه الأمور· لكنه كان شغوفا منذ البداية بالرياضيات ففيها وجد ما يصبو إليه من دقة ووضوح بعيدا عن الأحكام المسبقة والجدال بالإضافة إلى ضرورتها الدائمة لمهندس عسكري· وفي هذا المجال تفوق نابليون على كل طلبة فصله، كما أنه كان يستيغ الجغرافيا فهذه الأراضي المختلفة لا بد من دراستها، ودراسة الشعوب التي تعيش عليها، وفي الأرض الطعام وهو لازم للأحلام وكان التاريخ فيما يرى (وهو كذلك رأي كارليل) هو عبادة الأبطال خاصة الذين يقودون الأمم ويشكلون الإمبراطوريات وأحب بلوتارك Plutarch حتى أكثر من حبه لإقليدس Euclid · لقد تنفس التعاطف مع هؤلاء الوطنيين القدماء وشرب من دم هذه المعارك التاريخية، فقد قال له باولي Paoli ذات يوم "ليس من شيء جديد فيك فأنت تنتمي إلى بلوتارك تماما"(41)· ولا بد أنه كان يفهم هاين Heine الذي قال إنه عندما قرأ بلوتارك تطلع إلى ركوب حصان والانطلاق لفتح باريس· وقد حقق نابليون هذا الهدف من خلال غزوه لإيطاليا ومصر، لكن نقطة قوته (مجال تميزه) كانت تبدو واضحة في هجماته الجانبية (هجماته على جناحي الجيش المعادي)·
وبعد أن قضى خمس سنوات في برين Brienne وقد اصبحت سنه الآن خمس عشرة سنة، أصبح من بين الطلبة الذين تم اختيارهم من اثنتي عشرة مدرسة عسكرية في فرنسا ليحضروا برامج دراسية متقدمة في مدرسة باريس العسكرية (ليكول ميليتير Ecole Militaire )· وفي أكتوبر سنة 5871 تم تعيينه قائم مقاماً ثانياً (ليفيتنانت ثانى Second Lieutenant ) للمدفعية في فوج لافير La Fere Regiment المتمركز في فالنس Valence على الرون Rhone · وكان إجمالي راتبه هناك 021·1 جنيه (ليفر) في السنة(51)· ومن هذا المبلغ كان فيما يظهر يرسل جانبا لمساعدة أمه في تربية أخيه الأصغر، ولأن أباه قد مات في فبراير ولم يكن جوزيف (الابن الأكبر) يملك بعد موارد للمعيشة فقد أصبح نابليون هو رأس الأسرة the clan الفعال· وفي أثناء إجازاته كان يقوم بعدة زيارات إلى كورسيكا وحيدا حتى يشم ترابها"·· حبا في جروفها وجبالها العاليات ووديانها العميقة"(61) وذلك على حد تعبيره·
وفي فالنس Valence (وكذلك في أوكسن Auxonne سنة 8871) كسب احترام زملائه الضباط بتقدمه السريع في الفنون العسكرية وبسرعة استيعابه وما لديه من خصوبة فكرية تتمثل في اقتراحاته العملية واستعداده للمشاركة في الأعمال التي تتطلب جهدا بدنياً للتحكم في المدافع· وقد درس بعناية كتابا في التكتيك الحربي هو Essai de tactique géneérale (2771) بالإضافة إلى كتابات عسكرية أخرى ألفها جاك أنطوان هيبوليت دى جوبير Jacques Antoine Hippolyte de Guibert الرجل الذي أهملته عشيقته جولى دى ليسبيناس Julie de Lespinasse ولم يعد نابليون منبوذاً الآن فقد كون صداقات وارتاد المسارح وسمع الكونشرتات وتلقى دروساً في الرقص واكتشف مباهج النساء· وفي إجازة له قضاها في باريس (22 يناير سنة 7871) راح يحدث نفسه مجهدا عن مغامرة جنسية مع إحدى البغايا· لقد أكد لنا ذلك قائلا: "هذه الليلة باشرت امرأة للمرة الأولى في حياتي"(71) ومع ذلك ظل بعض الاكتئاب يراوده، فكان أحيانا عندما يكون في غرفته البسيطة منفردا يتساءل بمنطق صرف لم ينبغي أن تستمر حياته؟ "أليس من المحتم أن أموت في وقت ما؟، فربما كان من الأفضل أن أقتل نفسي"(81)· لكنه لم يكن يستطيع أن يفكر في طريقة يتم فيها ذلك بسرور لقد وجد لنفسه وقتا متاحاً في ساعات الفراغ ليوسع مجال تعليمه الذاتي بدراسة الأدب والتاريخ، وقد ظنته مدام دى ريموزا Mme de Rémusat آخر وصيفة لجوزفين أنه "جاهـل لا يقرأ إلا قليلا، ومتسرع"(91)· والحقيقة أننا وجدنا أنه حتى في فالنس وأوكسون Valence & Auxonne كان يقرأ الأعمال الدرامية التي ألفها كورنيل Corneille وموليير Moliere وراسين Racine وفولتير(02) Voltaire ، وكان يتلو من الذاكرة فقرات مما قرأ· وأعاد قراءة ترجمة أميوت Amyot لبلوتارك ودرس كتاب الأمير لميكيا فيللي، وروح القوانين Esprit des lois لمنتسكيو وكتاب رينال Raynal وعنوانه: Histoire Philosophique des deux Indes وكتاب ماريني Marigny عن تاريخ العرب Histoire des arabes وكتاب هوسي عن تاريخ حكومة البندقية Histoire du governement de venise وكتاب بارو Barrow الموسوم باسم: Histoire des Angleterre وغيرها كثير· وكان يكتب مذكرات أو تعليقات في أثناء القراءة ويقوم بتلخيص الكتب المهمة ولا زالت توجد 863 صفحة من مذكراته وتعليقاته هذه منذ أيام شبابه(12)· وكانت شخصيته متأثرة بالنهضة الإيطالية كما كانت عقليته متأثرة بالتنوير الفرنسي· ولكن شعاعا من الرومانسية تغلغل فيه استجابه لنثر روسو Rousseau العاطفي والقصائد المنسوبة إلى أوسيا Ossian " التي كان يستطيبها "للسبب نفسه الذي جعلني ابتهج لتلاطم الموج وهفيف الريح" (22)·
وعندما قامت الثورة الفرنسية رحب بها وقضى إجازة أخرى في سنة 0971 يعمل بتواؤم كامل مع حكم الثورة· وفي سنة 1971 قدم نابليون لأكاديمية ليون مقالاً دخل بها مسابقة لنيل جائزة قدمها رانيال Raynal حول "ما هي الفضائل أو المشاعر التي يجب أن يتحلى بها الشخـص ليحقـق مزيداً من السعادة؟ وربما كان مقال نابليون بهذا الشان متأثرا بما كتبه روسو Rousseau`s Julie , ou la Nouvelle Héloise (32)· يقول نابليون إجابة عن هذا السؤال: علّمهم أن أفضل حياة هي أبسطها· ليفلح الآباء والأبناء التربة وينعموا بثمارها بعيدا عن ضوضاء المدينة وفسادها· فكل ما يحتاجه الإنسان ليكون سعيدا هو الطعام واللباس وكوخ وزوجة· دعه يعمل ويأكل وينجب وينام وسيكون أسعد من أمير· فحياة أهل أسبرطة وفلفستهم هما الفضليان "والفضيلة شجاعة وقوة··· والطاقة حياة الروح··· والرجل القوي صالح والرجل الضعيف هو وحده السيء"(42)· هنا كان الشاب نابليون صدى لبترا سيماكوس(52) Thrasymachus ومقدمة لنيتشه الذي رد المديح بأن جعل نابليون بطلا للإرادة والقوة(62)· ومن بين آرائه التي ساق لها الأدلة إدانته للملكية والامتيازات الطبقية وتفاهة الإكليروس· وقد رفضت أكاديمية ليون مقالة نابليون تلك باعتبارها فجة·
وفي سبتمبر سنة 1971 زار نابليون مرة أخرى بلده الأصلي [كورسيكا] وابتهج بقرار الجمعية التأسيسية الفرنسية بجعل كورسيكا دائرة (محافظة) تابعة لفرنسا، وحدث شعبها عن مزايا المواطنة الفرنسية كلها· لقد سحب رغبته في الانتقام من الأمة التي جعلته فرنسيا رغم أنفه ذلك أنه شعر أن الثورة كانت تخلق وطنا فرنسيا جديدا ألمعيا، وفي حوار متخيل بعنوان (Le Souper de Beaucaire نشره على نفقته الخاصة في خريف سنة 3971 دافع عن الثورة باعتبارها "نضالاً حتى الموت بين الوطنيين والحكام المستبدين في أوربا"(72)· وحث المعارضين كلهم لينضموا للنضال من أجل حقوق الإنسان وعلى أية حال فقد شعر بطله القديم (مثله الأعلى القديم) باولي Paoli أن انضمام كورسيكا للأمة الفرنسية لن يكون مقبولا منه إلا إذا خولته الثورة سيادة كاملة على الجزيرة، وتقديم دعم مالي له وإلا تم طرد القوات الفرنسية من كورسيكا وكان من رأي نابليون أن هذا اقتراح متطرف واختلف مع مثله الأعلى السابق (باولي Paoli ) وعارض طلباته في انتخابات المجلس البلدي في أجاكسيو Ajaccio في أول ابريل سنة 2971، وفاز باولي وعاد نابليون إلى فرنسا·
وشاهد في باريس في 02 يونيو اجتياح الجماهير لقصر التوليري وعجب لأن الملك لم يفرق هؤلاء "الوحوش" بوابل من طلقات حرسه السويسرى· وفي 01 أغسطس رأى العوام (السانس كولوت) والاتحاديين Federes يسوقون الأسرة الملكية من القصر، فوصف المتجمهرين بأنهم "حثالة"·· إنهم لا ينتمون للطبقة العاملة أبدا"(82)· واستمر في دعم الثورة مع اتخاذه الحذر والاحتياط بشكل متزايد، وأصبح الآن ضابطا في جيشها· وفي ديسمبر سنة 3971 كما ذكرنا في مناسبة سابقة وجد نفسه في عملية الاستيلاء على طولون ونتيجة التوصيات التي أرسلت إلى روبيسبير بشأنه تم تعيينه عميدا (بريجاديير جنرال) brigadier general وهو في الرابعة والعشرين من عمره· لكن هذا أدى إلى القبض عليه بعد سقوط روبيسبير، فسجن في أنتيب Antibes ووضع اسمه في قائمة المحالين للمحاكمة وكان من الممكن أن يعدم إلا أنه تم إطلاق سراحه بعد أسبوعين، وأعيد لخدمة في مواقع غير فعالة براتب مخفض· وفي ربيع سنة 5971 (كما أخبرنا) كان يتجول على طول نهر السين تراوده فكرة الانتحار عندما التقى به صديق وجعل الحياة تسري في عروقه إذ منحه ثلاثين ألف فرنك(92) وأعاد نابليون المبلغ في وقت لاحق مضاعفا· وفي شهر يونيو وصفه بويسي دنجلا Boissy d `Anglas بأنه "إيطالي صغير شاحب ونحيل وسقيم لكن وجهات نظره جريئة بشكل لا نظير له"(03)· وقد فكر في وقت من الأوقات في الذهاب إلى تركيا لإعادة تنظيم جيش السلطان (العثماني) وليخلص لنفسه بمملكة شرقية على نحو ما· وعندما كان في حالة مزاجية أكثر انتحاء نحو ما هو عملي قدم لوزارة الحرب خطة معركة لطرد النمساويين من إيطاليا·
وفي واحدة من نزوات التاريخ حيث تفتح الأبواب التي لا مناص من فتحها تم تعيين بارا Barras لتنظيم الدفاع عن المؤتمر الوطني عندما حاصره الملكيون وغيرهم في 5 أكتوبر سنة 5971، فقرر بارا أن طلقات المدافع قد تحقق الغرض لكن لم تكن هذه المدافع تحت يده، وكان قد تذكر ما فعله نابليون في طولون فأرسل إليه وأوكل له مهمة تدبير المدافع وإطلاقها، فأدى المهمة وأصبح نابليون فجأة مشهوراً وسيء السمعة· وعندما احتاجت وزارة الحرب قائدا جسورا مجربا لقيادة الجيش الفرنسي المتوجه إلى إيطاليا زكى كارنو Carnot (أو بارا Barras )(13) تعيين بونابرت (2 مارس 6971) وبعد ذلك بسبعة أيام تزوج الجنرال السعيد من جوزفين التي كانت لا تزال جميلة·