قصة الحضارة -> عصر نابليون -> ملوك أوروبا في مواجهة التحدي -> ألمانيا ونابليون -> مقاطعات نابليون الألمانية

3- مقاطعات نابليون الألمانية


كانت هناك إلى الشمال من كولوني Cologne منطقتان كانتا رغم عضويتهما في كونفدرالية الراين (الراينبوند Rheenbund) تابعتين كلية لنابليون لاستيلائه عليهما عنوة عن طريق الحرب، وقد حكمهما هو نفسه أو بواسطة أقربائه: دوقيه بيرج Berg الكبيرة التي حكمها قريبه جواشيم مورا Joachim Murat ومملكة وستفاليا Westphalia التي حكمها أخوه جيروم Jerome· وعندما رقى نابليون أخاه جيروم فكلفه بحكم نابلي (8081) راح نابليون يحكم دوقية بيرج عن طريق مفوضين يرسلهم إليها، وراح عاما بعد عام يدخل فيهما الأساليب الفرنسية في الإدارة والضرائب والقانون· وكان النظام الإقطاعي فيهما قد غدا أثراً بعد عين إذ تطورت التجارة والصناعة حتى أصبحت الدوقية مركزا مزدهرا لاستخراج المعادن وصناعتها·
أماوستفاليا فكانت أكثر تنوعا واتساعا، فطرفها الغربي هو دوقية كليفز Cleves (التي ترجع إليها أصول الزوجة الرابعة لهنري الثامن) ومن ثم تتخذ اتجاها شرقيا عبر مينستر Munster وهايلدشيم Hildesheim وبرونسفيك Brunswick وفولفن بوتل Wolfenbuttel إلى ماجدنبورج Magdenburg، وعبر بادربورن Paderborn إلى كاسل Cassell(العاصمة) وعبر أنهار الرور (الروهر Ruhr) وإمز Ems وليب Lippe إلى السال Saale والإلب Elbe· وعندما أصبح جيروم بونابرت ملكا عليها في سنة 7081 كان في الثالثة والعشرين من عمره وكان أكثر اهتماماً بالمسرات منه بالسلطة· وراح نابليون - آملا أن تحوله المسئولية إلى شخص ناضج مستقر - يرسل له خطابات غاصة بالنصائح والتوجيهات الممتازة، بل وكانت ذات لمسة إنسانية حقا، لكنها كانت مصحوبة بمطالب مالية كبيرة، ووجد جيروم أنه من الصعب إشباع مطالب أخيه مقارنة بالموارد المالية المتاحة، بالإضافة إلى ميله (أي جيروم) للحاشية المسرفة وحياة الترف· وقد تعاون بشكل فعال تماما في إدخال الإصلاحات المبدعة الخلاقة التي عادة ما كان نابليون يجلبها معه في فترة فتوحاته وكان من مبادئ نابليون الأساسية أن الناس لا قدرة لهم على تحديد مستقبلهم، فالمؤسسات وحدها هي التي تحدد قدر الأمم(5) لذا فقد قدم لوستفاليا مجموعة قوانين (مدونة قانونية) وإدارة تتسم بالكفاءة، كما كانت تتسم بالأمانة النسبية، وحرية دينية ونظاما قضائيا كفؤا وأدخل نظام المحلفين، والمساواة أمام القانون، وتوحيد الضرائب، ونظام المراجعة المحاسبية الدورية لكل الأنشطة الحكومية· وكانت جمعية وستفاليا الوطنية يتم انتخابها من خلال حق اقتراح محدود: 51 من بين 001 مندوب (نائب أومفوض) يتم اختيارهم من التجار ورجال الصناعة، و 51 من بين العلماء وغيرهم من ذوي المكانة· ولم يكن لهذه الجمعية الوطنية حق المبادرة بإصدار التشريعات، لكن كان كان من حقها انتقاد الإجراءات التي يقدمها مجلس الدولة، وغالبا ما كان يؤخذ بنصائحها·
وكانت الإصلاحات الاقتصادية أساسية· لقد انتهى النظام الإقطاعي الآن، فالاقتصاد الحر لا بد أن يفتح كل المجالات أمام كل الطموحين· وكان لا بد من صيانة المجاري المائية والطرق وتحسينها، وتم إلغاء تعريفة الانتقال في نطاق وستفاليا وتم توحيد الموازين والمقاييس في كل أنحاء المملكة (وستفاليا)· وصدر مرسوم في 42 مارس 9081 يحمل كل كُمْيون مسئولية الفقراء في نطاقه سواء بتوظيفهم أو تقديم مساعدات الإعاشة لهم(6)· واشتكى دافعو الضرائب·
ومن الناحية الثقافية كانت وستفاليا أكثر الدول الألمانية تطورا لقد احتضنت بين جنباتها حياة فكرية منذ غذت مكتبة فودا Fuda الديرية عصر النهضة (الريتيسانس) بالمخطوطات الكلاسية، بل وقبل ذلك· لقد كان في هايلدشيم Hildesheim الفيلسوف والرياضي ليبنيتس (ليبنتز Leibniz) وكان في فولفنبوتل Wolfenbuttel الناقد والكاتب المسرحي ليسنج Lessing، والآن فإن لدى الملك جيروم أمين مكتبة ماهر هو جاكوب جريم Jacob Grimm سنتناوله بعد ذلك كمؤسس لعلم فيلولوجيا (علم فقه اللغة التاريخي والمقارن) اللغات التيوتونية· وفي سنة 7071 - بناء على دعوة نابليون - ترك جوهان فون ملر Muller كبير مؤرخي عصره - منصبه في برلين كمؤرخ ملكي (مؤرخ رسمي) ليأتي إلى وستفاليا وزيراً وليتولى (8081 - 9081) أمر التعليم العام· وكان في وستفاليا آنئذ خمس جامعات، كان معترفا بثلاث منها في ظل حكم جيروم: جوتنجن Gottingen وهيل Halle وماربوج Marburg، وحققت جامعتان منها شهرة عبر أوربا· لقد رأينا الشاعر كولردج Coleridgeيتجه مباشرة من نذر ستوي Nether Stowey إلى جوتنجن، ويعود لإنجلترا بعد عام وقد اعترته الدهشة والإعجاب بسبب الأفكار الألمانية·
وفي مقابل هذه الأمور الطيبة كان هناك شران شديدا الوطأة: الضرائب والتجنيد الإلزامي· لقد كان نابليون يطلب من كل الكيانات التابعة له مساهمة مالية فعالة لحكمه، ولبلاطه الذي راح إسرافه يزداد يوما بعد يوم، ولنفقات جيوشه· وكانت حجته بسيطة: إذا حدث أن استطاعت النمسا أو أي قوى معادية أن تلحق به الهزيمة أو تطيح به، فإن الأمور الطيبة التي جلبها معه ستنزع من رعاياه· ولهذا السبب نفسه لا بد للدول الواقعة تحت حمايته من مشاركة فرنسا التزاماتها بتقديم أبنائها القادرين للخدمة العسكرية ليضحوا عند الضرورة بحياتهم· وحتى سنة 3181 كان رعايا جيروم يتحملون برجولة هذا الاستنزاف· والأهم أن الجلد لم يكن معروفا في جيوش نابليون، كما كانت الترقية بالجدارة والاستحقاق، فكان يمكن لأي جندي أن يصبح ضابطا، بل ومارشالاً، لكن بحلول عام 3181 كان على وستفاليا أن ترسل 0008 من شبابها للاشتراك في حرب نابليون في أسبانيا، و 000،61 للمشاركة في حربه في روسيا، ولم يعد منهم من إسبانيا سوى 008، أمامن عادوا من روسيا فلم يزيدوا على 000،2·
وكانت ناخبية (إمارة) هانوفر تقع في شمال شرق وستفاليا· وفي سنة 4171 كان ناخبها قد أصبح هو ملك إنجلترا جورج الأول، فأصبحت هانوفر تابعة لإنجلترا· أما الناخب الذي تولى أمرها تباعا فهو جورج الثالث الذي جعل منها منطقة موالية لبريطانيا وعمل على عدم ابتعادها عنها (عن بريطانيا) ولهذا الغرض ترك ملاك الأراضي الكبار فيها (في هانوفر) يحكمون الإمارة (المقاطعة) لصالح الأرستقراطية الألمانية - وهي من أكثر الأرستقراطيات تمسكا وانغلاقا بمعنى أن من الصعب أن ينضم إليها غيرهم· لقد كانت كل المناصب المهمة يحتكرها النبلاء الذين كانوا حريصين ألا يقع على كاهلهم شيء من عبء الضرائب· وعلى أن يتحمل غالبها الفلاحون وأهل المدينة· وظل النظام الإقطاعي قائما وإن خفف من وطأته العلاقات الأسرية وكانت الحكومة المحلية أمينة أمانة فوق التصور(7)· وفي سنة 3081 - عند بداية الحرب مع إنجلترا - أمر نابليون قواته وجهازه الإداري بالسيطرة على هانوفر لضمان عدم نزول قوات برية بريطانية فيها ولمنع أي بضائع إنجليزية، ولم يلق الفرنسيون سوى مقاومة بسيطة، وفي سنة 7081 - وكان نابليون مشغولاً باهتمامات أكبر - أمر بإلحاق (ضم) هانوفر إلى وستفاليا وأتاحها (أي هانوفر) لجهاز جمع الضرائب التابع للملك جيروم· وراح أهل هانوفر يندبون حظهم متضرعين إلى الرب ليعودوا تابعين لإنجلترا كما كانوا·
وعلى النقيض من هانوفر، كانت المدن الهانسيتية - هامبورج ، وبريمن Bremen ولوبك Lubeck - موطناً للازدهار والرخاء والكبرياء (الاعتزاز بالانتماء)· لكن العُصبة (التحالف المكوَّن من هذه المدن) كانت قد انحلّت منذ مدة طويلة، غير أن انهيار أنتورب Antwerp وأمستردام تحت الإدارة الفرنسية أدّى إلى تحويل كثير من تجارتيهما إلى هامبورج وبدت المدينة الواقعة على مصب نهر إلب the Elbe والتي كان سكانها في سنة 0081: 000،511 نفس، وكأنما صُمِّمَت لخدمة التجارة البحرية ولإعادة شحن السفن بشكل ناشط· لقد كان يحكمها التجار الكبار والماليون، وكان احتكارهم محتملاً نظراً لمهارتهم ووضعهم كل الأمور في الاعتبار· وتلهّف نابليون لضم هذه المدن التجارية لحكمه ليضمها للحظر الذي فرضه على الواردات البريطانية وليستفيد بأموالها والقروض التي يحصلها منها على حروبه فأرسل بورين Borrienne وآخرين لوقف تدفق البضائع البريطانية إلى هامبورج، وقد أصبح هذا الوزير السابق (بورين) ثرياً بفضل تغاضيه (إغلاقه عينيه الاثنتين) وأخيراً ضم نابليون المدينة الكبيرة إلى حكمه (0181) فانزعج أهلها انزعاجاً شديداً حتى إنهم شكَّلوا جمعيات سرية لاغتياله (اغتيال نابليون) وراحوا يتآمرون كل يوم لإسقاطه·



صفحة رقم : 14712