قصة الحضارة -> عصر نابليون -> ملوك أوروبا في مواجهة التحدي -> ألمانيا ونابليون -> بروسيا تنهض من جديد

7- بروسيا تنهض من جديد


7081 - 2181


هناك نواة صلبة في الطبيعة الألمانية - أكدتها قرون من الحياة الشاقة بين شعوب محاربة وأجنبية - وهي أن الألمان شعب يمكنه تحمل الهزيمة مرفوع الرأس وينتظر الوقت المناسب للرد· وكان هناك آنئذ (الفترة التي نتحدث عنها) رجال على شاكلة شتاين Stein وهاردنبرج Hardenberg وشارنهورست Scharnhorst وجنيشيناو Gneisenau، ولم يتركوا يوما واحدا يمرّ دون أن يكون شغلهم الشاغل هو كيف يتم خلاص بروسيا أو بتعبير آخر كيف تبعث من جديد· فهؤلاء الملايين من الأقنان (عبيد الأرض) الذين لا أمل لهم في ظل عبوديتهم القديمة - كم هي الطاقة التي سيصبونها في الاقتصاد البروسي وكم هي الحيوية التي سينعشونه بها لوأنهم تحرروا من أعبائهم المهنية وراحوا - وسط الترحاب - يعملون في مشروعات حرة في الريف أو المدن؟ وهذه المدن التي هي الآن كسولة فاترة الهمة في ظل حكم النبلاء الذين يحتقرون التجارة، ويمارسون مهامهم في حكم الأمة من عاصمة مركزية بعيدة - ما هي المبادرات النشيطة التي قد يطورونها في مجالات الصناعة وإدارة الأعمال، والمالية، في ظل حافز الحرية والتجريب؟ إن فرنسا في عهد الثورة الفرنسية قد حررت أقنان الأرض وانتعشت، بل إنها أبقت المدن تحت نفوذ باريس، فلم لا نحرر المدن والأقنان (عبيد الأرض) في آن، قاطعين الطريق على الغازي؟ على هذا النحو فكر فرايهر هنريش· فريدريش كارل فوم أوند تسوم شتاين Freiherr Heinrich Friedrich Karl Vom und zum Stein والمقطع الأخير من اسمه Vom und zum steinيعني أبو صخر عند الصخرة of and at Rock نسبة إلى مدينة أسلاف أسرته على نهر لاهن Lahn الذي يلتقي بنهر الراين فوق كوبلنز (كوبلنتس Coblenz)، ولم يكن الرجل بارونا وإنما فرايهر Freiherr - والكلمة تعني رجلا حرا - من الفرسان الإمبراطوريين (الرايخسترترشافت Reichstrittershaft)، وقد دعا للدفاع عن الأراضي التابعة له، وعن المملكة· لقد ولد (62 أكتوبر 7571) ليس في مدينة Vom Und zum Stein (مدينة أبو صخر عند الصخرة) وإنما بالقرب القريب من مدينة نساو Nassau، وكان أبوه حاجباً لناخب (أمير) مينز (منتس Mainz)، والتحق الابن عند بلوغه السادسة عشرة من عمره بمدرسة القانون والسياسة في جامعة جوتنجن Gottingen· وهناك قرأ منتسكيو Montesquieu وأخذ عنه إعجابه بالدستور الإنجليزي، وقرر أن يكون عظيما (أي بتعبير آخر قرر أن يلعب أدوارا مهمة) ومارس مهنته القانونية في محاكم الإمبراطوية الرومانية المقدسة في فتسلر Wetzler وفي الدايت الإمبراطوري في ريجنسبورج Regensburg·
وفي سنة 0871 دخل الخدمة المدنية في بروسيا فعمل في الإدارة الوستفالية للصناعة والتعدين· وفي سنة 6971 تولى منصبا قياديا في الإدارة الاقتصادية لكل المقاطعات البروسية على طول الراين، واستدعى إلى برلين في سنة 4081 ليشغل منصب وزير الدولة للتجارة بسبب نشاطه البالغ ونجاح مقترحاته· وفي غضون شهر من توليه منصب وزير الدولة للتجارة عهد إليه بتقديم العون لوزارة المالية· وعندما وصلت أخبار للعاصمة مفادها تشتيت نابليون للجيش البروسي في يينا (جينا Jena) نجح شتين Stein في نقل محتويات الخزانة البروسية إلى ممل Memel وبأموالها استطاع فريدريك وليم الثالث تمويل حكمه في المنفى (المقصود بعيدا عن العاصمة)، وربما أدت كوارث الحرب وماصاحبها من توتر إلى توتر أعصاب الملك والوزراء، ففي 3 يناير 7081 طرد فريدريك وليم الثالث وزيره شتاين Stein لأنه عنيد متغطرس لاعلاج له وغير مطيع، وهو - لإعجابه بعبقريته ومواهبه··· يعمل انطلاقا من عواطفه وكراهيته الشخصية وعلى وفق ما تمليه عليه ضغائنه(61)· وعاد شتاين إلى بيته في نساو Nassau، وبعد ذلك بستة أشهر دعاه الملك - بعد أن علم أن نابليون طلبه كمدير - ليتولى وزارة الداخلية·
وكان منصب وزير الداخلية هو بالضبط الموقع المناسب الذي يمكن شتاين (ذلك الهر herr أي السيد المتحرر الغضوب) من تقديم أفضل الإصلاحات لإطلاق طاقات الشعب البروسي· وفي 4 أكتوبر 7081 تولى مهام منصبه الجديد بالفعل، وفي 9 أكتوبر كان يعد للملك إعلانا طالما تطلع إليه ملايين الفلاحين ومئات الليبراليين، وكانت المادة الأولى في مشروعه هذا معتدلة إذ تعلن حق كل ساكن من سكان ولاياتنا أن يشتري أرضا ويتملكها وكان هذا الحق - حتى الآن - غير متاح للفلاحين· والمادة الثانية تسمح لأي بروسي أن يعمل في أي استثمار مشروع، وعلى هذا فستفتح كل المجالات أمام المواهب - كما هو الحال في ظل حكم نابليون - بصرف النظر عن الانتماء لأسرة أو طبقة، وستصبح الحواجز الطبقية لا مكان لها في المجال الاقتصادي، والمادة العاشرة تمنع أي قنانة (عبودية للأرض) أما المادة 21 فتعلن ابتداء من 11 نوفمبر (المارتنماس أي عيد القديس مارتن) لا يصبح في كل ولاياتنا فلاح نصف حر·· سنكون جميعاً أحرارا(71) وقاوم نبلاء كثيرون هذا المرسوم، ولم يصبح ساريا بكل بنوده حتى سنة 1181·
وعمل شتاين Stein والليبراليون المؤيدون له خلال عام 8081 على تحرير المدن البروسية من حكم البارونات الإقطاعيين أو ضباط الجيش المتقاعدين أو متعهدي الضرائب الذين كانت سلطتهم - في الغالب - بلا حدود· وفي 91 نوفمبر سنة 8081 أصدر الملك - الذي أصبح مرة أخرى راغباً في الإصلاح - القانون المحلي للبلديات، يحكم المدن بمقتضاه مجلس محلي (جمعية محلية) تختار موظفيها بنفسها، باستثناء المدن الكبيرة فالملك هو الذي يعين عمدة burgomaster كل منها من بين ثلاثة رجال يختارهم المجلس المحلي· وهكذا بدأت الحياة السياسية الصحيحة على المستوى المحلي وتطورت إلى نظام إداري بلدي ألماني ممتاز·
ولم يكن شتاين Stein وحده في رعاية أمور بروسيا· فقد عمل جير هارد (جيراد) فون شارنهورست Gerhard Von Scharnhorst (5571 - 3181) والكونت أوجست نيتهاردت فون جنيسناو Count August Neithardt Von Gneisenau (0671 - 1381) والأمير كارل فون هاردنبرج Karl Von Hardenberg (0571 - 2281) عملوا معا على إعادة بناء الجيش البروسي مستخدمين مختلف الحيل لتحاشي القيود التي فرضها نابليون· وكان تطور هذه العملية (إعادة بناء الجيش البروسي) من التقدم بمكان كما يتضح من خطاب أرسله شتاين في 51 أغسطس سنة 8081 إلى أحد الضباط البروس، ووقع في أيدي الفرنسيين الذين نشروه في جريدة المونيتير Moniteur في 8 سبتمبر وفيما يلي جانب من هذا الخطاب:
السخط يزداد كل يوم في ألمانيا· لا بد أن نطعم الناس ونعمل من أجلهم· إنني شديد الرغبة في إقامة روابط بين هيس Hesse ووستفاليا ومن الضروري أن نعد أنفسنا لأحداث معينة تتطلب منا مواصلة الاتصال بالرجال ذوي الطاقة والقدرة على العمل وذوي النوايا الحسنة· لابد أن نجعل هؤلاء الرجال يلتقون (لتدارس الأمر)··· لقد تركت أحداث إسبانيا أثرا حيوياً، لقد أثبتت ما كنّا نتوقعه ومن المفيد أن ننشر هذه الأنباء بحذر· إننا نظن أن الحرب بين فرنسا والنمسا أمر لامناص منه· وهذا الصراع سيقرر مصير أوربا(81)· وكان نابليون على وشك الاتجاه إلى إسبانيا لخوض معركة كبرى، فأمر فريدريك وليم بطرد شتاين Stein من منصبه فتوانى الملك في الإذعان إلى أن حذر من أن الجيش الفرنسي سيبقى في الأراضي البروسية إلى أن يذعن لأمر لنابليون· وفي 42 نوفمبر سنة 8081 طرد شتاين مرة أخرى من منصبه، وفي 61 ديسمبر أصدر نابليون من مدريد مرسوما يجعله بعيدا عن حماية القانون (مرسوما بإهدار دمه) ومصادرة كل ممتلكاته والقبض عليه في أي مكان يوجد فيه داخل المناطق التي تسيطر عليها فرنسا· وهرب شتاين في بوهيميا· وسدت بروسيا النقص بتعيين هاردنبرج Hardenberg (0181) مستشارا للدولة - وهو منصب يعني في الواقع (رياسة الوزراء) وكان هاردنبرج عضوا في الحكومة السابقة، وكان قد أعاد تنظيم وزارة المالية وتفاوض في اتفاق السلام في سنة 5971، وتحمل جانبا من المسئولية في كارثة 6081 وطرد من الحكومة بإصرار من نابليون (7081)، والآن فقد بلغ الرجل الستين من عمره، وبينما كان نابليون غارقا في حب إمبراطورته الجديدة، راح هاردنبرج يحرك الملك نحو النظام الملكي الدستوري بحثه دعوة أول جمعية للنبلاء (1181) تم دعوة جمعية لممثلي الأمة (2181) ذات مهام استشارية، ولأن هاردنبرج كان معجبا بالمفكرين الفرنسيين فقد جعل ممتلكات الكنيسة علمانية وأصر على أن ينعم اليهود بالمساواة (11 مارس 2181) وفرض ضريبة ممتلكات على النبلاء وضريبة كسب على رجال الأعمال· وأنهى احتكار الطوائف (نقابات الصناع والتجار ذات الطابع الوسيط - أي العائد للقصور الوسطى) ذلك النظام المعوق ورسخ مبدأ حرية الاستثمار والتجارة·
لقد كانت حركة إعادة بناء بروسيا فيما بين عام 7081 وعام 2181 موحية بالقوة المختزنة في طيات الشخصية الألمانية· فتحت نواظر العيون الفرنسية المعادية، وفي ظل حكم واحد من أضعف الملوك في بروسيا استطاع رجال مثل شتاين Stein وهاردنبرج Hardenberg - ولم يكن أي منهما نبيلا - أن يأخذوا على عاتقهم إعادة بناء أمة مهزومة ومحتلة ومفلسة، واستطاعوا في غضون ستة أعوام أن يسموا بها إلى سنام السلطة والفخر مما جعلها في سنة 3181 القائد الطبيعي في حرب التحرير (المقصود حرب التخلص من السيادة الفرنسية) وأسهمت كل الطبقات في هذا الجهد، فقاد النبلاء الجيش وقبل الفلاحون التجنيد الإجباري وتنازل التجار عن كثير من أرباحهم للدولة وناضل الرجال والنساء من أهل الأدب والفكر في طول ألمانيا وعرضها من أجل حرية الصحافة والفكر والعبادة، وفي سنة 7081، وفي برلين المحشودة بالقوات الفرنسية ألقى فيشته Fichte خطاباته الشهيرة التي وجهها للأمة الألمانية دعا فيها إلى أقليه منظمة لتقود الشعب البروسي إلى طهارة خلقية (معنوية) وبعث وطني جديد وفي كونيجسبرج Konigsberg في سنة 8081 نظم بعض أساتذة الجامعات اتحاد الأخلاق والعلوم عرف فيما بعد باسم عصبة الفضيلة (توجنبوند Tugenbund) وكان هدفه تحرير بروسيا·
وفي هذه الأثناء كان شتاين Stein حائرا خارج بلاده يعاني النفي والفقر، والخوف الدائم من أن يقبض عليه أو تطلق عليه النار، وفي مايو سنة 2181 دعاه إسكندر للانضمام لبلاطه في سان بطرسبرج، وظل هناك مع مضيفه (إسكندر) في انتظار قدوم نابليون·


صفحة رقم : 14716