قصة الحضارة -> عصر نابليون -> ملوك أوروبا في مواجهة التحدي -> الشعب الألماني -> الموسيقا

8- الموسيقا


كانت الموسيقا هي كبرياء ألمانيا في رخائها وازدهارها، وسلواها في أساها ونكباتها· فعندما وصلت مدام دي ستيل إلى فيمار في سنة 3081 وجدت أن الموسيقا تكاد تكون جزءا أساسيا في حياة الأسرة المتعلمة، وكان في كثير من المدن فرق أوبرية ومنذ أيام جلك Gluck راحت ألمانيا تقلل شيئا فشيئا من اعتمادها على الأعمال والألحان الإيطالية· وكان في مانهايم Mannhein وليبزج (ليبتسج) أوركسترات حققت شهرة في مختلف أنحاء أوربا· ودخلت موسيقا الآلات في منافسة عامة مع الأوبرا· وكان في ألمانيا عازفو فيولين عظماء مثل لويس سبوهر Spohr (4871 - 9581) وعازفو بيان مشاهير مثل جوهان (يوهان) همل Humniel (8771 - 7381) وكان الملك فريدريك وليم الثاني يعزف على الفيولنشلو Violoncello كما كان له دور في تأليف الكارتيات واحدهما: (كارتيته وهي مقطوعة موسيقية تعزفها أربع آلات) وأحيانا الأوركسترات، وكان الأمير لويس فرديناند بارعا في العزف على البيانو ولم يمنعه من منافسة بتهوفن وهمل Hummel سوى أصله الملكي(42)·
وكان في ألمانيا أيضا أستاذ موسيقا وقائد فرفة حقق شهرة في مختلف أنحاء أوربا كمعلم ومؤلف وذواقة لمعظم الآلات الموسيقية: إنه أبت Abt (Abbot) جورج جوزيف فوجلر Vogler (9471 - 4181)· لقد حقق في بداية حياته شهرة كعازف على الأرغن والبيان، وقد تعلم الفيولين دون أستاذ وطور نظاما جديدا للعزف بالأصابع لتتمشى بشكل جيد مع أصابعه الطويلة· ذهب إلى إيطاليا لدراسة التأليف الموسيقي على يد بدر مارتيني Padre Martini وتمرد على أستاذ إثر أستاذ وارتمى في أحضان الدين، وكان الجمهور يصفق له في روما· ولما عاد إلى ألمانيا أسس مدرسة موسيقية في مانهايم Mannheim ثم في دار مشتدرت Darmstadt وأخيرا في ستوكهولم· ورفض الأساليب الموسيقية الصعبة في التأليف الموسيقي، تلك الأساليب التي يعلمها المعلمون الإيطاليون، وظنه موزارت وآخرون دجالا لكنهم بعد ذلك بو أوه مكانا حفيا ليس كمؤلف موسيقي وإنما كمعلم، وكإنسان وكمصمم أرغن، وجاب أوربا كعازف أرغن فجذب إليه جمهورا عريضا وحقق مكاسب كبيرة، وطور الأرغن· وغير أسلوب العزف على الأرغن، وأجاد الارتجال كبيتهوفن(52)، وكان أستاذا جليلا وقره عدد كبير من تلاميذه بمن فيهم فيبرWeberوميربيرMeyerbeer وعندما مات بكوه وحزنوا عليه كما لو كانوا قد فقدوا أباهم· وفي31مايو4181كتب فيبر Weber: في اليوم السادس من الشهر انتزع الموت منا فجأة فولجر أستاذنا المحبوب··لكنه سيحيا دوماً في قلوبنا(62)·
وكان كارل ماريا فون فيبر Carl Maria Von Weber (6871 - 6281) واحدا من أبناء كثيرين أنجبهم فرانتس أنطون فون فيبر (6871 - 6281) من زوجتيه (تزوجهما تباعا)· وقد تناولنا بالذكر في هذه المجلدات اثنين من بناته أو قريباته (أبناء أو بنات الأخ أو الأخت): ألويزيا Aloysia التي كانت حب موزارت الأول كما كانت مغنية مشهورة، وكونستانزا Constanze التي أصبحت زوجة لموزارت· ودرس ابناه فريس Fritz وإدموند مع جوزيف هايدن، أما الابن كارل فلم يكن فتى واعدا في مجال الموسيقا حتى إن فرانتس قال له: اسمع يا كارل كن كما شئت لكنك لن تكون موسيقيا(72) فاتجه إلى الرسم، لكن في أثناء تجوال فرانتس أنطون كمدير لفرقة تمثيلية وموسيقية، كان غالبا ما يؤلف لأبنائه، - واصل كارل تعليمه الموسيقي على يد معلم مخلص هو جوزيف هيسكل Heuschkel، فأظهر الفتى موهبة وحقق تقدما سريعا بدرجة أدهشت والده وأسعدته· وبحلول عام 0081 كان كارل قد بلغ الرابعة عشرة من عمره واستطاع في هذه السن أن يؤلف الموسيقا ويعزفها أمام الجمهور· وعلى أية حال، ففي هذه الأثناء كان التسرع المحموم في الانتقال من مدينة إلى مدينة (مع الفرقة) قد ترك بعض الأثر على شخصية كارل فغدا عصبيا غير مستقر سريع التغير· وأصبح مفتونا بالطباعة على الجحر، تلك الطريقة التي اخترعها صديقة ألويز سنفلدر Aloys Senefelder حتى أنه أهمل لفترة التأليف الموسيقي وذهب مع أبيه إلى فرايبرج Freiberg في سكسونيا ليمارس الطباعة على الحجر كعمل تجاري· وفي بواكير سنة 3081 قابل أبت فوجلر Abt Vogler فرب فيه الحماس من جديد وأصبح تميلذا لفوجلر وقبل نظامه الصارم في التدريب والتطبيق، ودفعته ثقة فوجلر لمزيد من الاتقان· لقد راح الآن يتطور تطوراً سريعاً حتى أنّه دُعي بناء على توصية فوجلر ليكون قائد أوركسترا Kapellureister في برسيلاو Breslau (4081)، ومع أنه لم يكن قد تجاوز السابعة عشر من عمره إلاّ أنه قُبِل فأخذ معه والده المريض وهذب إلى العاصمة السيليزية Silesia Capital·
ولم يكن الشاب مناسباً لوظيفة تتطلب مهارة في التعامل مع الرجال والنساء المختلفي المشارب والأهواء، وليس فقط تحقيق انجاز موسيقي، فأصبح له أصدقاء مخلصين وأعداء مفرطين في العداوة، وراح ينفق بسفه ويشرب الخمر بطيش، وخلط بين زجاجة حمض النيتريك وزجاجة النبيذ، فشرب قدراً من حمض النيتريك قبل أن يُدرك أنه يبتلع ناراً، فأُضير ضرراً دائماً في حنجرته وحباله الصوتية ولم يعد يستطيع الغناء، بل أصبح لا يستطيع الكلام إلا بصعوبة، وفقد وظيفته بعد ذلك بعام، وراح يعول نفسه وأباه وعمته من المبالغ التي يحصلها من الدروس، وأصبح وضعه خطرا، واقترب من اليأس إلى أن عرض الدوق يوجن Eugen (من فيرتمبرج Wurttemberg) على ثلاثتهم مكانا للإقامة في مقر إقامته Lus Schloss Karlstuhe في سيليزيا (6081) لكن تمزيق نابليون لبروسيا والحاقه الحزاب بميزانيتها أثرا على الدوق فلحق به الخراب بدوره، واضطر فيبر Weber ليطعم نفسه وأباه وعمته لهجر الموسيقا لفترة وعمل كسكريتر للدوق لودفيج Ludwig (من فيرتمبرج) فـي شـتوتجارت وكـان هـذا اللـورد عربيـدا مسـرفا فاسـقا غيـر أمين، فتـرك تأثيرا سيئا على كارل الذي ارتبط عاطفيا بالمغنية مارجرتيا لانج لكنه فقدها، ففقد بفقدها مدخراته وصحته لكن أسرة يهودية في برلين أنقذته من الفسوق - انهم آل بير Beers تلك الأسرة التي أنجبت ميربير Meyerbeer، وأعاده الزواج إلى حالة الاتزان لكنه لم يستعد صحته·
لقد حقق شهرة أثناء حرب التحرير لأنه وضع الموسيقا للأناشيد الحربية التي كتبها كارل تيودور كورنر Korner وبعد الحرب، دخل معركة من نوع آخر - ضد الأوبرا الإيطالية فقد ألف عمله التحرير Freichutz (1281) كإعلان استقلال، وتم أداؤه للمرة الأولى في 81 يونيو 1281 في الذكرى السنوية لمعركة واترلو، لقد طارت على جناحي الوطنية ولم تحقق أوبرا ألمانية ما حققته من نجاح· لقد كان موضوعها مستوحى من حكايات الأشباح والكائنات النورانية Gespenster buch وغمرتها روح المرح بما فيها من جنيات يحمين الحر الذي يذلق النار (على العدو)· لقد كانت ألمانيا في هذه الأيام القاسية تتلقى مساعدات كبيرة من الجن، وفي سنة 6281 وجدنا مندلسون Mendelssohn يقدم لنا حلم ليلة منتصف الصيف Midsummer Nights Dream· لقد كانت أوبرا فيبر Weber علاقة على انتصار الرومانسية Romanticism في الموسيقا الألمانية· وكان يأمل أن يواصل نجاحاته بعمله (Euryanthe) الذي عرض للمرة الأولى في فينا سنة 3281، لكن روسينى Rossini كان لتوه قد غزا فينا ولم تعد موسيقا فيبلر الأكثر رقة وذكاء تجذب الناس· أدى هذا الفشل - بالإضافة إلى تدهور صحته - إلى إصابته بالإحباط فتوقف - أو كاد - عن التأليف الموسيقي طوال عامين· ثم عرض عليه شارلز كمبل Kemble مدير مسرح حديقة كوفنت Covent Garden Theatre ألف جنيه لكتابة أوبرا لدار أوبرا ويلاند Wieland وأن يأتي إلى لندن للتعاقد معه· فعمل فيبر Weber بحماس شديد لكتابة هذه الأوبرا ودرس الإنجليزية بجدية ومثابرة حتى إنه عندما وصل إلى لندن لم يكن يستطيع كتابة الإنجليزية فقط وإنما التحدث بها أيضا وبشكل جيد· وفي العرض الأول (82 مايو 5281) حقق نجاحا هائلا حتى إن المؤلف السعيد وصف هذه الليلة لزوجته في اليوم نفسه: لقد حققت هذا المساء أعظم نجاح في حياتي·· عندما بدأت الأوركسترا كان المسرح غاصاً حتى السقف وصفق الحاضرون بحماس شديد عندما دخلت، وطوحوا بالقبعات والمناديل في الهواء وبعد نهاية العرض دعيت إلى خشبة المسرح···· فاتجهوا إلي جميعا، وكان كل من أحاطوا بي سعداء(82)·
لكن أعماله التي عرضت بعد ذلك لم تلق مثل هذا الاستحسان، وفي 62 مايو 6281 فشل - بشكل محزن - حفل موسيقي لصالحه (لتقديم العون المالي له) وبعد ذلك بأيام قلائل لزم المؤلف المحبَط (بفتح الباء) والمرهق سريره إذ تفافم عليه داء السل (ذات الرئة) فمات في 5 يونيو بعيدا عن وطنه وأسرته·



صفحة رقم : 14724