قصة الحضارة -> عصر نابليون -> ملوك أوروبا في مواجهة التحدي -> الشعب الألماني -> كُتَّاب المسرح
10- كتاب المسرح
بعد أن قام فيلهلم فون شليجل بترجمته الممتازة لأعمال شكسبير (8971 وما بعدها) قدم المسرح الألماني مكانا جديداً لمسرحيات العصر الإليزابيثي، وكان كتاب المسرح الألمان - بين ليسنج وكلايست Kleist يهدفون عادة إلى إرضاء الطبقة الوسطى بشكل عام، وكانوا قد فقدوا ما حققوه من نجاحات جماهيرية بسبب عدم الاستقرار الذي شهده عصرهم· لقد وضع زكارياس فيرنر Zacharias Werner اتجاهه الصوفي (الباطني) على المسرح بشكل عابر، أما أوجست فون كوتسبو Von Kotzebue (1671 - 9181) فأسعد بمسرحياته جيلا واحدا لكنه الآن ذكرى باهتهة لا يكاد يذكر إلا بسبب اغتياله· لكن الألمان يذكرون هينريش (هينريخ) فيلهلم فون كلايست Kleist شفقة عليه ولاحترامه لقلمه· ولد (7771) في فرانكفورت - آن - دير - أودر Frankfort - an - der - Oder وكان قريبا في طبعه (مزاجه) للسلاف كما كان قريبالهم من الناحية الجغرافية وقضى سبع سنوات في الجيش كأي مواطن ألماني صالح، لكنه تحسر بعد ذلك على ضياع هذه الأعوام· درس العلوم والأدب والفلسفة في الجامعة المحلية وفقد إيمانه بالدين والعلم على سواء· وارتجف لفكرة الزواج عندما رشح ليكون زوجا لابنة جنرال، وهرب إلى باريس ومنها إلى سويسرا حيث لعب خياله به بشراء مزرعة وليترك توالي الفصول يهدئ من عقله المزدحم بالأفكار، لكنه عاد مرة أخرى للأدب فكتب تراجيدية تاريخية (لم يكملها) هي: روبرت جسكارد Guiskard وفي سنة 8081 عرض فوق خشبة المسرح في فيمار مسرحية كوميدية هي مسرحية الإبريق المكسور Der Zerbrochene Krug التي صنفها الجيل التالي باعتبارها عملاً كلاسيا باقيا· ومكث في فيمار فترة (2081 - 3081) ونعم بصداقة - وتشجيع - كريستوف فيلاند Wieland وهو لا أدري عجوز قال له بعد أن سمع مقتطفات من تراجيديته جوسكارد Guiskard أنت تحمل في داخلك أرواح أسخيلوس وسوفوكليس وشكسبير(13) وقال له أيضا إن عبقرية كلايست Kleist خلقت لتسد كل الفراغ في تطور الدراما الألمانية فحتى شيلر وجوته لم يملآه(23) وكان هذا كافيا لتدمير هذا الكاتب المسرحي الشاب أو بتعبير آخر تدمير سوفوكليس الجديد الذي لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره·
لقد اتجه إلى باريس ليعيش فيها فشعر بفورانها فراح يتفكر في النزعة إلى الشك المتوارثة في الفلسفة المثالية الألمانية: إذا كنا لا نعرف إلا أقل القليل عن الكون كما ندركه بوعينا، فلن نعرف الحقيقة أبدا· شيء واحد مؤكد فالكل مصيره للتراب: فلاسفة وعلماء وشعراء وقديسون ومتسولون ومجانين· لقد فقد كلايست الشجاعة لمواجهة واقع غير قائم على أساس وطيد، لقد رفض مواجهته وقبوله والاستمتاع به وانتهى إلى أن عبقريته وهم وكتبه ومخطوطاته عبث، وفي لحظة يأس حرق كل ما كان معه منها وحاول الانضمام إلى جيش نابليون المتأهب لعبور القنال الإنجليزي، وفي 62 اكتوبر سنة 3081 كتب إلى أخته التي أحبها حبا يفوق الوصف ماسأذكره لك قد يكلفك حياتك، لكن لا بد، لا بد من قوله لك· لقد درست وأمعنت مرة أخرى في عملي (مؤلفي) فرفضته وأحرقته· والآن حلت النهاية· السماء تنكر عليّ الشهرة - وهي أعظم ما يمكن أن يناله المرء في الدنيا، لكنني كطفل متقلب سأقذف بكل ما بقي أمامها (السماء)· لا أستطيع أن أرى نفسي جديرا بصداقتك، وبدون صداقة لا أستطيع العيش· إنني أختار الموت· كوني هادئة، فسأموت ميتة جميلة· سأموت سامياً في معركة· لقد غادرت عاصمة البلاد واتجهت إلى سواحلها الشمالية وسألتحق بالخدمة العسكرية الفرنسية وسرعان ما سيركب كل الجنود السفن في الطريق إلى إنجلترا، ودمارنا جميعا رهن بالبحر· إنني مبتهج لهذا القبر الفخم· وستكونين يا حبيبتي آخر ما أفكر فيه(33)·
لكن خطته أن يكون جنديا ألمانيا في الجيش الفرنسي أثارت الشكوك حوله، فطرد من فرنسا بإصرار من السفير البروسي، وبعد ذلك بوقت وجيز أعلنت فرنسا الحرب على بروسيا، وفي سنة 6081 دمرنابليون الجيش البروسي بل ودمر تقريبا بروسيا نفسها، وبحث كلايست عن ملجأله في دريسدن لكن العسكر الفرنسيين قبضوا عليه ظانين أنه جاسوس فقضى في السجن ستة أشهر وعندما عاد إلى دريسدن انضم إلى مجموعة وطنية من الكتاب والفنانين وتعاون مع آدم ميلر Muller في تحرير دورية أسهم فيها بكتابة بعض من أجمل مقالاته· وفي سنة 8081 نشر مسرحية تراجيدية (Penthesilea) كانت بطلتها أميرة أمازونية Amazonian انضمت إلى تروجان المتهور ضد الإغريق في طروادة (وذلك بعد موت هيكتور Hector)· لقد انطلقت لتقبل أخيل Achilles إلا أنه تغلب عليها فوقعت في حبه، وعلى وفق قانون النسوة الأمازونيات كان عليها أن تثبت جدارتها بالانتصار على عشيقها في معركة، فوخزت أخيل بسهم وأطلقت كلابها عليه، وانضمت لهذه الكلاب في تمزيقه إربا وشربت من دمه ثم سقطت ميتة· والمسرحية صدى للجنون أو العربدة السعار المؤقت الذي تناوله يوربيدز Euripides - وهو جانب من الميثولوجيا الإغريقية لم يركز عليه الدارسون للأدب الهيليني قبل نيتشه·
والذي لاشك فيه أن الغضب قد تصاعد بسبب تمزيق نابليون لأوصال بروسيا بطيش وبلا روية، مما أخرج الشاعر من أحزانه الخاصة وأصبح من بين أصوات أخرى تدعو ألمانيا لشن حرب تحرير· وفي نحو نهاية سنة 8081 أصدر مسرحية Die Hermannsschlacht استعاد فيها ذكريات أرمينيوس Arminius على الجيوش الرومانية· في السنة السادسة للميلاد، ليبعث بذلك الشجاعة ويحثهم على التصدّي لنابليون في حرب بدت يائسة· هنا نجد - مرة أخرى - نجد وطنية كلايست Kleist ترتفع لذروة العصاب: فزوجة هيرمان (ثوزنلدا Thusnelda) تغري الجنرال الألماني (فينتيديوس (Ventidius لتلتقي به لقاء غرام، ومن ثم قادته ليلقى حتفه إذ يلتهمه دب متوحش·
وكان العامان 9081 - 0181 يمثلان ذورة عبقرية كلايست· لقد عرضت مسرحيته الشعرية (Das Kathechen von Hilbronn) وحققت نجاحا في هامبورغ وفينا وجراز (جراتس) كما أن مجموعة قصصه القصيرة التي صدرت في مجلدين في سنة 0181 ميزته وربما جعلته من بين أصحاب أجمل الأساليب الأدبية في عصر جوته· وبعد ذلك أصيب بالإحباط ربما لتدهور صحته، ووقع أخيرا في حب رومانسي مع امرأة مصابة بمرض عضال هي هنريت فوجل، وربما كان هذا الحب ناتجا عن المعاناة المشتركة بينهما· وتعكس خطاباته لها عقل رجل على حافة الجنون: يا جت Jette العزيزة، يا كلي، يا حصني، يا أرضي الخضراء، يا خلاصة حياتي، يا عرسي، يا عماد أطفالي، يا مأساتي، يا قدري، يا ملاكي الحارس، يا ملاكي الجميل، يا سيرا في Seraph (الكلمة تعنى ملكاً مجندا لحراسة الله (أستغفر الله) في التوراة)! وقد أجابته بأنه إن كان يحبها فلا بد أن يقتلها، وفي 12 نوفمبر 1181 وعلى شاطئ الفانسي Wansee بالقرب من بوتسدام أطلق عليها النار فأرداها ثم قتل نفسه·
لقد استسلمت الرومانسية فيه إلى المشاعر كأشد ما يكون الاستسلام مع قوة خيال وبراعة أسلوب· وبدا في مرات عديدة فرنسياً أكثر منه ألمانياً، مناقضا لجوته، أخا لبودلير وأكثر قرباً لريمبو Rimbaud· ويكاد يكون (بحياته هذه) قد أكد مقولة جوته غير المتعاطفة (الكلاسية صحة، والرومانسية مرض)· دعنا نر·