قصة الحضارة -> عصر نابليون -> ملوك أوروبا في مواجهة التحدي -> روسيا -> تعليم إمبراطور

3- تعليم إمبراطور


من الصعب على عقول انشغلت طوال أعوام بحكاية نجم مذنب يقال له نابليون أن تدرك أن إسكندر الأول (ألكساندر بافلولوفتش 7771 - 5281) كان محبوباً في روسيا على نحو ما كان بونابرت محبوبا في فرنسا·لقد نشأ مثل صديقه وعدوه في رحاب التنوير الفرنسي، ومزج - مثله - أوتو قراطيته بالأفكار الليبرالية، لقد حقق ما حاول أعظم الجنرالات (المعاصرين) تحقيقه (لأنه لابد من احترام سمي القيصر) وفشل - قاد جيشه عبر القارة من عاصمته إلى عاصمة عدوه وتغلب عليه، وأنه في ساعة النصر تصرف باعتدال وتواضع، وأثبت أنه من بين هذا العدد الكبير من الجنرالات والعباقرة أفضلهم أدبا وكياسة· أيمكن أن تنجب روسيا هذا المثل الأعلى؟ نعم، لكن بعد أن انغمس طويلا في آداب فرنسا وفلسفتها بفضل معلم سويسري·
إن طريقة تعليمه في حاجة إلى زينوفون Xenophon آخر ليجعله في سيروبيديا Cyropaedia أخــرى عــن شبـاب ملك وتعليمه وتدريبه· لقد تعرض تعليمه لعناصر متضاربة متصارعة· فأولاً كانت هناك جدته كاترين الكبيرة المشغولة الغائبة - رغم متابعة أمره بدقة· لقد أبعدته كاترين عن أمه ونقلت له مبادئ الحكم المطلق المتنور ممتزجة بنتف من المؤلفين الذين كانت تحبهم - فولتير وروسو وديدرو Diderot - وذلك قبل أن تفقد هي نفسها هذه المبادئ· وربما بتوجيه منها تعلم منذ طفولته أن ينام بلا غطاء ثقيل والنوافذ مشرعة، على حشية من جلد مراكشي (جلد ماعز) محشوة بالقش(41)، فأصبح بذلك محصنا ضد تقلبـات الجو وتمتع بصحة وحيوية فائقتين· لكنه مات في الثامنة والأربعين من عمره·
وفي سنة 4871 أحضرت له كاترين من سويسرا فريدريك سيزار دي لا هارب Frederic - Cesar de La Harpe (4571 - 8381) ليكون مشرفا على تعليمه، وكان دي لاهارب متحمساً مخلصاً للفمكيرن والمثقفين الفرنسيين· ولقن دي هارب تلميذه إسكندر طوال تسع سنوات تاريخ فرنسا وآدابها· وتعلم الأمير كيف يتكلم الفرنسية بإتقان بل وأن يفكر - غالبا - كالفرنسيين· (لا حظ أن نابليون كان يتحدث الفرنسية لكن ليس بشكل تام، وكان يفكر كإيطالي من عصر النهضة الرينيسانس)· وكانت هناك ممرضة علمت الأمير - بالفعل - اللغة الإنجليزية، والآن فإن ميخائيل مورافيوف Mikhail Muraviov قد علمه لغة الإغريق القديمة وآدابها، ونقل إليه الكونت ن· ج· سالتيكوف N. J. Saltykov عادات الأوتوقراطية الإمبراطورية (الأوتوقراطية تعني حكم الفرد)، وكان هناك معلمون آخرون يعلمونه الرياضيات والفيزياء والجغرافيا· ونقل إليه سومبورسكىSomborsky كبير القسس الأخلاق المسيحية على وفق مبدأ مؤداه أن على كل إنسان أن يجد في كل إنسان جاراً له لكي يحقق شرع الرب(51) وربما وجب علينا أن نضيف إلى قائمة معلمي إسكندر لويزا إليزابث (من بادن - دورلاش) Luise Elisabeth of Baden - Durlach التي أصبح اسمها إليزافيتا أليكسيفنا Elizaveta Alekseevna والتي تزوجته في سنة 3971 بناء على طلب كاترين، وكان في السادسة عشرة من عمره، ومن المفهوم أن إليزافيتا قد علمته الطرق الصحيحة لمباشرة النساء·
لقد كان هذا البرنامج التعليمي ملائما لتخريج عالم ورجل مهذب لكنه لايكاد يصلح لحاكم مطلق يحكم الروس· وعندما خافت كاترين من التطورات التي حدثت في مسار الثورة الفرنسية لم تعد معجبة بفولتير وديدرو Diderot، وأبعدت لا هارب La Harpe (4971) عن تولي مهمة الإشراف على تعليم إسكندر، فعاد إلى سويسرا ليقود ثورة هناك· ووجد إسكندر أن الواقع في البلاط وفي جاتشينا Gatchina يختلف بشكل مربك عن مناقشات الفلاسفة ومثاليات روسو Rousseau· لقد أصابه الرعب لتشابك القضايا التي تواجه الحكومة وتعقدها، وربما ضاع منه التفاؤل الذي علمه إياه لا هارب La Harpe واكتأب لموت جدته (كاترين)· لقد كتب في سنة 6971 لصديقه المقرب الكونت كوشبي Kochubey:
إنني مشمئز للوضع الذي أجد نفسي فيه· إنه بعيد جدا عن طبيعتي التي تتلاءم على نحو أكثر مع حياة السلام والهدوء· فحياة البلاط لا تصلح لي· إنني أحس بالبؤس أن أكون وسط مثل هؤلاء الناس (رجال البلاط)··· وفي الوقت نفسه أجدهم يشغلون أعلى المناصب في الإمبراطورية· وباختصار يا صديقي العزيز فأنا أدرك أنني لم أولد لأشغل منصبا عاليا ذلك المنصب الذي أشغله الآن بل إنني أقل من المنصب الذي ينتظرني في المستقبل، وقد أقسمت بيني وبين نفسي أن أتخلى عنه بطريقة أو بأخرى··· إن أمور الدولة مضطربة تماما، فالابتزاز والاختلاس في كل مكان، وكل الوزارات والإدارات تدار بشكل سيء··· ورغم كل هذا فلا هم للإمبراطورية سوى التوسع، وعلى هذا أيمكنني أن أدير الدولة، بل أيمكنني ما هو أكثر من هذا - أعني إصلاحها والقضاء على الشرور المتأصلة فيها؟ أظن أن هذا يفوق طاقة أي عبقري في البال بشخص مثلي ذي قدرات عادية·
إنني بعد أن وضعت كل هذا في اعتباري أتخذت قراري الذي ذكرته لك آنفا· إن خطتي هي التخلي عن العرش (لا أستطيع أن أقول متى) وأن استقر مع زوجتي على شواطئ الراين لأعيش حياتي الخاصة كمواطن أستمتع بصحبة الأصدقاء ودراسة الطبيعة(61)·
إلا أن الحظ أتاح له خمس سنوات ليكيف نفسه مع متطلبات منصبه· لقد تعلم كيف يقدر العناصر البناءة في الحياة الروسية: المثالية والإخلاص المستوحيان من المسيحية، والاستعداد لتبادل تقديم المساعدة (التعاون)، والشجاعة وتحمل المشاق الناتجة عن الحروب مع التتار والترك، وقوة الخيال السلافي Slavic وعمقه الذي سرعان ما أفرز أدباً عميقا وفريدا، والكبرياء الصامتة الناتجة عن الوعي بحاضر الروس والمساحة المكانية الكبيرة التي يشغلونها· وفي 42 مارس 1081 وجدنا إسكندر - الشاعر محب العزلة - وقد تحدته الفرصة المتاحة له، فوجد في جذوره وأحلامه مايمكنه من فهم شعبه وقيادته نحو العظمة ليجعل من روسيا حكما (بفتح الحاء والكاف) لأوربا·



صفحة رقم : 14743